كشفت الأحداث الأخيرة فى إرغام وزير الزراعة على الاستقالة بتوجيه من رئيس الدولة ثم القبض عليه استنادا إلى وقائع فساد عن بدء الدولة فى اتخاذ خطوات قوية وحاسمة للتصدى للفساد. وحمل هذا رسالة قوية أنه لا يوجد مسئول فوق الحساب مهما علا موقعه إذا تعلق الأمر بوقائع فساد. وتمثل هذه أول حادثة فى التاريخ المعاصر لمصر للتعامل فى قضية فساد مع وزير أو مسئول كبير فى الحكم. ويجيء هذا كخطوة أولى لمسيرة ومعركة ستطول للتصدى للفساد الذى تغلغل فى كل قطاعات العمل الحكومى مقترنا بتردى أداء وكفاءة وجودة الخدمات فى كل المجالات. ويعتبر الفساد أحد الأسباب الرئيسية خلال العقود الأربعة الأخيرة فى فشل التنمية، وهدر موارد الدولة والمجتمع، وضعف تدفق الاستثمارات الخارجية، وانهيار خدمات التعليم والصحة،كما أنه يمثل العامل الرئيسى فى عجز الموازنة وتضخم الدين العام. وسيحتاج تقليص الفساد وتحسين الأداء للأجهزة الحكومية إلى سياسات وجهود متنوعة ومتضافرة وممتدة. وهناك حاجة ماسة فى المدى القصير والمتوسط إلى اتخاذ إجراءات إصلاح مؤسسى سريعة وحاسمة تصب فى عدد من المجالات الحيوية المختارة، التى يمكن أن تتحقق فيها نجاحات ملموسة. ومن هذه الإجراءات والمجالات: أولا: تشكيل لجنة قومية لفحص حالات الفساد الكبير ولاسترداد الأموال المنهموبة، تضم متخصصين رفيعي المستوى، لدراسة ملفات الأراضى والعقارات التى خصصتها الدولة، وحالات التلاعب والتهرب الضريبى للشركات الكبرى، وكذلك لفحص ممتلكات من شغلوا مناصب وزارية أو قيادية فى الحكومة أو القطاع العام أو المحليات أو كانوا أعضاء فى مجلسى الشعب والشورى أو المجالس المحلية خلال العقدين الأخيرين، للتثبت من عدم وجود فساد بشأنها، ولتحويل حالات الفساد للنائب العام. واتخاذ إجراءات لاسترداد الأصول والأموال المنهوبة. ثانيا: استحداث منصب وزارى للإصلاح الحكومى ومكافحة الفساد (أو وحدة تابعة لرئيس الدولة) ليقوم هذا الوزير (أو الوحدة التابعة للرئاسة) بالتنسيق والمتابعة مع الوزارات المختلفة المستهدفة ببرامج ومبادرات للإصلاح الحكومى والمكافحة والسيطرة على الفساد، وكذلك مع الأجهزة الرقابية وهيئة جديدة مقترحة لنزاهة ومكافحة الفساد، كما يقوم بوضع خطة وبرنامج عمل تنفيذى استنادا لخطة قومية للتصدى للفساد، تتضمن القطاعات الحكومية المستهدفة والمبادرات المتعلقة بها،ومراحل التنفيذ، ومؤشرات لقياس الفساد ومدى التقدم فى مكافحته فى المجالات والمؤسسات المستهدفة. ثالثا:إنشاء هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد لتكون هيئة مستقلة (تتبع مباشرة مجلس النواب أو رئيس الجمهورية) وبحيث تزود بالأدوار والصلاحيات والإمكانات التى تمكنها من تحقيق فاعلية منذ البدء فى التصدى لهذه الآفة الخطيرة. ويكون للهيئة صلاحيات فى مجال المكافحة من خلال تجميع الوقائع والتحرى والتحقيقات والإحالة للنيابة، إضافة إلى مهام الوقاية والمنع (التى لا تقوم بها أى من الأجهزة الرقابية حاليا)، وتنسيق وضع ومتابعة تنفيذ خطة إستراتيجية للتصدى للفساد على المستوى القومي، والتنسيق بين الأجهزة الرقابية والتنفيذية والمجتمع المدنى فى هذا المجال ويمكن أن تدمج هيئة الرقابة الإدارية الحالية فى الهيئة الجديدة المقترحة للنزاهة ومكافحة الفساد، أو يطور أدوارها وهيكلها وتبعيتها لتكون هى الهيئة الجديدة. ويوجد الآن ما يقرب من 140 هيئة مستقلة لمكافحة الفساد على مستوى العالم. رابعا:الإسراع فى إصدار مجموعة من التشريعات والإصلاحات المؤسسية التى تستفيد من المرجعيات الدولية (ضمن مبادرة تشريعية ومؤسسية شاملة) لسد الفجوة الحالية فى الإطار التشريعى والمؤسسى الخاص بمكافحة الفساد. وتتضمن هذه التشريعات والإصلاحات التى ينبغى أن تمثل أولوية للبرلمان القادم: (1) تعريف حالات الفساد بأنواعها المختلفة شاملة الفساد السياسى والإدارى والمالى والوظيفى والمشمولين به فى كل مستويات مؤسسات الدولة؛ (2) قانون لحماية الشهود والمبلغين والخبراء والضحايا فى قضايا وحالات الفساد، بحيث يكون مانعا للإضرار بهؤلاء من ناحية، ولردع الأطراف التى تسبب أو تحاول الإضرار بهم؛ (3) قانون لاتاحة وتداول والحق فى المعلومات عن ممارسات الأجهزة الحكومية (تعزيزا للشفافية التى تعانى من فجوة كبيرة الآن، وبما لا يمس اعتبارات الأمن القومى)؛ (4) قانون شامل لمنع تعارض المصالح فى كل مجالات وقطاعات ومستويات مؤسسات الدولة؛ (5) تعديل قانون العقوبات لتشديد العقوبة على جرائم الفساد والكسب غير المشروع بأنواعها بما يكفى لردعها ومنعها، وكذلك لتعجيل الإجراءات القضائية بشأنها؛ (6) تعديل قانون الإفصاح عن الذمة المالية والممتلكات للمسئولين فى كل مؤسسات الدولة لمعالجة القصور فى القانون الحالي، ولتحقيق فاعلية هذا الإجراء؛ (7) تقوية منظومة الرقابة الداخلية فى مؤسسات الدولة بما فى ذلك عمل مدونات سلوك لكل مؤسسة لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، وتشكيل لجان داخلية للنزاهة. خامسا: إعادة هيكلة شاملة لأدوار وتنظيم وأساليب عمل أجهزة الرقابة (الجهاز المركزى للمحاسبات، هيئة الرقابة الإدارية، جهاز الكسب غير المشروع، وغيرها). ويستند هذا إلى ضرورة تطوير أدوار ورفع كفاءة هذه الأجهزة لتواكب التوجه الجديد للدولة والمجتمع. سادسا: اتخاذ إجراءات عاجلة لتحسين الخدمات والأداء الحكومى والحد من الفساد فيها من خلال تحسين الشفافية وتقوية المساءلة تجاه جمهور المتعاملين فى قطاعات ومجالات حيوية مختارة تمس أوضاع وحياة المواطنين، أو تمس مناخ وبيئة الأعمال والاستثمار فى كل مراحلها لإحداث تحول إيجابى وجوهرى فيها، أو تتعلق بمجالات حيوية مثل التعليم والصحة والإسكان، أو تتعلق ببعض المجالات التى تتضمن هدرا لموارد الدولة والمجتمع مثل الأراضى والمشروعات العامة والضرائب والجمارك والمشتريات والتوريدات الحكومية والصناديق الخاصة. سابعا: وضع برنامج للتطبيق المتدرج لرفع أجور المراكز العليا (مثل الوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات، على غرتر ما فعلته سنغافورة فى 1985) وأيضا هيكل الأجور الحكومية بصورة جوهرية (مع ربطه وتعديله بما يتوافق مع معدلات التضخم فى الأسعار) وبما يكفل ويوفر سياج وقاية ومناعة ضد الفساد، يعززها تشديد وتغليظ العقوبة فى جرائم الفساد أو ممارسات الإهمال أو التراخى فى أداء المسئوليات الوظيفية). وينبغى التأكيد هنا على أن هيكل الأجور ينبغى أن يفى ليس فقط بمتطلبات العيش الإنسانى الكريم للعاملين فى الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة، وإنما بتوفير ما يكفل نزاهة وتعفف الممارسات والحماية من الوقوع فى الفساد. ويقترح أن يتم تمويل الزيادة فى الأجور فى الموازنة من إعادة هيكلة الضرائب لتحقيق العدالة ولسد منافذ التهرب والنهوض من بجانب التحصيل مع تشديد العقوبة على المتهربين، وكذلك باللجوء لمصادر غير تقليدية للترشيد وزيادة الإيرادات لتمويل تلك الحصيلة الموجهة لزيادة الأجور على النحو المقترح. ثامنا: ينبغى أن يقترن ما سبق بحملة إعلامية قوية ومتنوعة الوسائل والأدوات، ويشارك فيها أطراف عديدة للتوعية الجماهيرية، والبدء بتغيير الثقافة والقيم والتنبيه بخطورة الفساد وآثاره السلبية فى كل المجالات. ومن المهم أن تشتمل الحملة التأكيد على دور القيادات وواجبات العاملين والمواطنين فى الحفاظ على المرافق ومنشآت الدولة، وكذلك المنشآت الخاصة، والتأكيد على أن الإنتاجية والالتزام والإتقان ونزاهة الممارسات التى ينتج عنها تحسن فى الأداء الاقتصادى سينعكس على المزيد من تحسن أجورهم وعوائدهم. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور