منذ أسابيع صرح المهندس إبراهيم محلب بأن الحكومة تعمل بكل جد للقضاء على الفساد بجميع مؤسسات الدولة؛ من خلال تفعيل دور أجهزة الرقابة، وكشف جرائم الفساد وسرعة التحقيق وإصدار الأحكام بشأنها. وقال إنه يأمل أن يتم القضاء على الفساد بمصر خلال ستة أشهر من الآن. الجانب الإيجابى فى هذا التصريح هو أن الحكومة بدأت تدرك أهمية وضرورة التصدى للفساد بجدية وحسم، لأنه يمثل العائق الرئيسى أمام كل سياسات ومشروعات التنمية التى يتم الانطلاق بها الآن. لكن هذه التصريحات ليست سوى نوايا حسنة للأسباب التالية: أولا: يحتاج التصدى للفساد بشقيه (الوقاية والمكافحة) وفق الخبرات العالمية الناجحة والأدبيات التى تعالج هذا الموضوع خاصة فى الدول التى عانت من انتشار وتغلغل الفساد فيها مثل مصر إلى ستة عناصر أساسية: (1) تشخيص وتحليل لأنواع الفساد ودرجة تغلغله فى مؤسسات الدولة وخطورة وآثار كل نوع والقطاعات والأطراف المضارة وكذلك المستفيدة منه، والعوامل المسببة لكل نوع؛ (2) خطة استراتيجية تشارك فيها الأطراف الرئيسية المعنية تحدد الأهداف والأولويات وسياسات وبرامج المنع والوقاية من ناحية، والكشف والمكافحة والردع من ناحية ثانية، والتوعية المجتمعية من ناحية ثالثة، ويتطلب هذا التركيز على نوعيات الفساد الأكثر إضرارا بالتنمية للوقاية منها وردعها؛ (3) الإصلاحات المؤسسية والتشريعية لسد منابع الفساد والوقاية منه وتعزيز الشفافية والمساءلة وتقوية منظومة الرقابة فى نظم إدارة الدولة وتشديد العقوبة على الفساد وحماية المبلغين والشهود والضحايا ووضع قواعد وآليات لمنع تعارض المصالح؛ (4) إعادة بناء وهيكلة اجهزة الرقابة بما فى ذلك تجديد وتنقية قياداتها وكوادرها وتعزيز ادوارها وفاعليتها ومساءلتها وتقوية آليات التنسيق وتبادل المعلومات والتعاون بينها؛ (5) إنشاء هيئة مركزية مستقلة لمكافحة الفساد والوقاية منه تكون مدعومة سياسيا ومعززة بالصلاحيات والقدرات والخبرات لتباشر الاشراف على وضع الخطة ومتابعة تنفيذها والتنسيق بين مختلف جهات الإصلاح والرقابة ورصد وقياس مؤشرات الفساد والقيام بالبحوث المتعلقة بالفساد والنزاهة فى مختلف قطاعات الدولة والمجتمع؛(6) تعزيز دورالنيابةوالقضاء فى التحقيقات والحسم وسرعة البت فى قضايا الفساد. ومن الواضح أن أيا من تلك الخطوات لم يتخذ بعد ولا تم حتى التحضير له !! ثانيا: تشير خبرات الدول التى نجحت فى تقليص الفساد والسيطرة عليه بعد ما كان متغلغلا ومنتشرا إلى أن تحقيق نجاحات ملموسة وواسعة يمثل معركة طويلة الأمد، تأخذ من عقد إلى عقدين، وأحيانا مدة أطول. لكن إذا تركزت الجهود المدعومة سياسيا والمؤسسة على تشخيص صحيح التى تتضافر فيها جهود الإصلاح المؤسسى والإدارى الواقية من الفساد مع جهود الردع والمكافحةعلى نوعيات وقطاعات ومؤسسات بعينها، يمكن فى هذه الحالة تحقيق نجاحات فى المدى القصير والمتوسط. وتحتاج مصرإلى الإطلاع على خبرات دول مثل سنغافورة وماليزيا وبعض دول أوروبا الوسطى والشرقية والدول الإسكندنافية والاستفادة منها لوضع برنامج التصدى للفساد. وفى كل الحالات لن يمكن القضاء على الفساد نهائيا، فلا يوجد فى العالم دولة خالية من الفساد. لكن هناك دولا تقل فيها ممارسات الفساد لأن نظم العمل والإدارة والرقابة والشفافية وأجور الموظفين وسلطات الجمهور والمتعاملين مع الأجهزة وآليات حماية الشهود والمبلغين وكذلك الروادع الموجودة ضد الفساد تمنع الوقوع فيه، وإذا حدث فإجراءات الكشف عنه والتحقيقات والعقاب حاسمة وسريعة ولا تهاون فيها.وتمثل القيم والثقافة المؤسسية وكذلك المجتمعية سياج حماية للنزاهة ولمقاومة أبسط صور الفساد. ثالثا: لن يمكن التصدى للفساد إلا بخطة وبرنامج محكم وواضح ومعلن يستند إلى ماجاء فيه أولا، لكن يحظى بدعم سياسى عال ومساندة جماهيرية واسعة. كذلك لا يمكن لأجهزة الرقابة أن تخوض المعركة ضد الفساد وحدها أو بالحالة التى ظلت عليها لعقود طويلة متهاونة ومتسامحة تجاهه بل أحيانا متورطة هى ذاتها فيه. ويعتبر كسب مساندة الجماهير وتعاونها مع أجهزة الرقابة فى التصدى للفساد ومقاومته ركيزة اساسية للنجاح. ويكمن التحدى فى كيفية استنهاض وعى الناس بأن ممارسات فساد شاعت وتأصلت فى الثقافة المجتمعية تعتبر غير أخلاقية ومنافية لتكافؤ الفرص (مثل الواسطة والمحسوبية والغش فى الامتحانات وتبادل المنافع وتعارض المصالح). رابعا: سبق أن أشرت فى مقالات عديدة إلى أن نقطة البدء فى التصدى للفساد بعد ثورتين جماهيريتين كان الفساد محركا لهما، تتمثل فى تشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الفساد الكبير الذى ساد خلال الأربعين سنة الماضية، وأخرى لاسترداد الأموال والأصول المنهوبة من الدولة خلال تلك الفترة (يعد الآن قانون للجنة الأخيرة)، ثم البدء فى اتخاذ خطوات جادة لسد الثغرات فى الإطار المؤسسى والتشريعى القائم حاليا بما فى ذلك المنظومة الرقابية، مع تحديد أنماط الفساد والقطاعات والمؤسسات المستهدفة بالإصلاح والتنقية والتطهير. وهناك حاجة لتغيير القيادات العليا فى هذه القطاعات والمؤسسات،فلا يتصور أن يتم التصدى للفساد من قبل قيادات كانت متصالحة مع الفساد أو منغمسة فيه. السؤال هنا: ما الذى قامت به الدولة والحكومة فيما ذكر فى الأربعة بنود السابقة؟ من الواضح أنه لم يتم البدء بعد بخطوات جادة ولو على أول الطريق فى الحرب على الفساد ناهيك عن السيطرة عليه. ولن تكفى النوايا الطيبة والتصريحات المتفائلة فى مواجهة هذه الآفة اللعينة التى تأكل وتخرب منذ عقود وحتى الآن فى جسم الوطن ومؤسسات الدولة وتبدد وتشوه سياساتها وبرامجها. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور