قامت ثورة 25 يناير 2011، وأسقطت نظاما قام على الفساد وتركه ينمو ويتشعب ويتنوع ويتغلغل في مؤسسات الدولة، ويمس بالضرر والأذى حياة كل المصريين، ورغم ذلك، لم تتخذ أية خطوات جادة خلال فترة حكم المجلس العسكري للسيطرة على الفساد ومجابهته بصورة حاسمة وجادة، ونتاجا لذلك توسع الفساد في الأجهزة الحكومية لضعف الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الثلاث الأخيرة وعدم تبني إجراءات حاسمة وقوية للتصدي للفساد بصورة نظامية. نشطت وتوسعت عمليات التعدي على أصول وممتلكات الدولة، ومخالفات البناء، والتعدي على الأراضي الزراعية بالبناء عليها، وتهريب البضائع والسلع وإغراق الأسواق بها، وتهريب الأسلحة، وعمليات غسيل الأموال خلال تلك الفترة، وتراخت وتراجعت أعمال تحصيل موارد الدولة من خلال الضرائب والجمارك والأنشطة الإيرادية الأخرى بصفة جزئية لأسباب بعضها موضوعي، وبعضها الآخر غير موضوعي. اقترن توسع الفساد بكل الأشكال التي اتخذها خلال الفترة الانتقالية لحكم المجلس العسكري بضعف أجهزة الدولة عموما، وبالعمليات المتعمدة لإضعافها واختراقها من قبل القوى التي أضيرت مباشرة من ثورة يناير، والقوى الإسلامية الجديدة كانت تهيئ للقفز على مؤسسات الدولة لإعادة اقتناصها لصالحها، وتمكنت هذه القوى الجديدة من اقتناص المجلس التشريعي بشقيه (الشعب والشورى)، ومن اختطاف واقتناص لجنة وضع الدستور، ومن الصعود إلى كرسي رئاسة الدولة، ودار صراع محموم حول إكمال عملية الاقتناص والاختطاف في زمن قياسي وبصورة فجة كشفت عن درجة عالية من الانتهازية والجشع السياسي الذي يعني استبدال نخبة نظام مبارك، بنخبة أخرى أكثر فجاجة ورجعية وجشعا وطمعا في السيطرة على مفاصل مؤسسات الدولة مع تعريض الوطن وكيان الدولة وتوجهها وأراضيها وموروثها التاريخي ومصالح المجتمع المصري كله لمخاطر عميقة وداهمة، وتم استبدال فساد نظام مبارك بفساد جديد أشد خطورة لاستناده إلى ركائز عقائدية مغلوطة لا تعترف بمصالح مصر الوطن، حدودها وترابها وجغرافيتها وتاريخها، تعرضت مصر بعد ثورة يناير وبعد المرحلة الانتقالية بكل سوءاتها إلى ما يمكن تسميته، بالفساد العقائدي العظيم الذي يهدر الوطن ويستخدم الدولة لتحقيق أيديولوجيته المغلوطة وغاياته الخبيثة. سقط نظام الرئيس مرسي، وسقط معه مخطط الفساد العقائدي العظيم ونظام حكم الإسلام السياسي بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، سقط هذا النظام بتحرك وخروج حشود بعشرات الملايين من المصريين، لرفض منظومة الحكم التي حاولت إعادة اختطاف الدولة تحت المخطط العقائدي ولإضعاف مؤسساتها وتفكيك تماسك الوطن تنفيذا لهذا المخطط، تحرك الجيش استجابة لإرادة الشعب، وشكلا معا حائط صد ضد المخطط الخبيث لتفكيك الدولة والوطن، برز خلال هذا أولويات حماية كيان الوطن والدولة والمجتمع، وجاءت إلى السلطة التنفيذية حكومتان كانت أولوياتهما الحفاظ على مؤسسات الدولة، وأمن المجتمع، وتحجيم القوى التي تستهدف تفكيك مؤسسات الدولة، وتصحيح مسار مرحلة حكم الإخوان المسلمين، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، أو ما سمي خريطة المستقبل، لم تحتو هذه الخريطة، ولا الأولويات المعلنة، على التصدي للفساد كظاهرة ومشكلة متعددة الجوانب والأبعاد. ومثلما كان الحال خلال مختلف الفترات والحكومات منذ سقوط نظام مبارك، لم يبرز التصدي للفساد ومكافحته وتعقبه أو منعه والوقاية منه كأولوية في توجه أو أهداف الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الثلاث الماضية، ورغم قيام ثورتين جماهيريتين خلال تلك الفترة، كان الفساد عاملا أساسيا في تحريكهما، إلا أن القوى العميقة المستفيدة من الفساد والكامنة والمتغلغلة في مؤسسات الدولة، وفي الهيئات والأجهزة الرقابية، وكذلك في الساحة السياسية وفي قطاعات الاقتصاد والمجتمع، سعت ونجحت في ألا تتبني أي من الحكومات المتعاقبة خطوات أو برامج نظامية واضحة المعالم محددة الأهداف للتصدي للفساد. وقد وصل الأمر أن نجحت هذه القوى في ألا يحتوي الدستور الجديد على نصوص قوية تدعم التصدي للفساد وتعالج الفجوة المؤسسية القائمة في منظومة مكافحة الفساد ومنعه، وبلغ الأمر بها أن نجحت في منع تضمين الدستور الجديد لنص بإنشاء هيئة مستقلة للنزاهة ومكافحة الفساد، وإلغاء النص الخاص بمفوضية مكافحة الفساد الذي تضمنه الدستور الذي صدر في عهد الرئيس محمد مرسي، ورغم أن النص الخاص بالمفوضية لم يكن مكتملاً لإعطاء الكيان الجديد القوة والأدوار والصلاحيات التي تضمن فاعليته، فلا يعقل في بلد قامت فيه ثورتان منذ 2011 كان الفساد سبباً رئيسياً فيهما، ألا يحتوي الدستور الجديد(الأخير) علي نص ينشئ تلك الهيئة ويضمن لها الاستقلالية والأدوار والموارد التي تمكنها من مواجهة آفة الفساد التي تغلغلت واستفحلت في مصر خلال العقود الأربعة الأخيرة. تري هل سيعالج الرئيس الجديد ومجلس النواب الذي سيجري انتخابه جوانب القصور التي شابت المرحلة الانتقالية فيما يتعلق بالتصدي للفساد واستكمال البنية المؤسسية اللازمة لذلك بما يتضمنه هذا من إنشاء هيئة للنزاهة ومكافحة الفساد، واعادة هيكلة وتنقية أجهزة الرقابة، وتبني برامج وسياسات لإصلاح الأجهزة الحكومية ومكافحة والوقاية من الفساد فيها خاصة تلك التي تقوم بأدوار تنموية حرجة (مثل الأجهزة التي تتعامل مع الاستثمار والقطاع الخاص، ومؤسسات قطاع البترول والإسكان، ومؤسسات التعليم)؟ فمن المؤكد أن التصدي الحاسم والممنهج للفساد سيمثل اختبارا هاما لقدرة النظام والقيادة الجديدة علي إنجاز إصلاحات جادة تمهد لإحداث تنمية حقيقية. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور