يمثل التصدى للفساد خلال المرحلة القادمة لتوفير بيئة مناسبة للاستثمار وتحسين الخدمات الأساسية وتحقيق تنمية قوية ومتسارعة مصحوبة بعدالة اجتماعية، التحدى الأكبر الذى سيواجه النظام الجديد. وفيما يلى أهم الخطوات والمبادرات المطلوب اتخاذها من قبل الرئيس والحكومة والبرلمان القادمين للتصدى للفساد: 1 إنشاء لجنة وطنية لتقصى الحقائق وتلقى البلاغات حول أعمال الفساد، لحين إنشاء هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد. ويقترح هنا أن تكون هذه اللجنة مختصة بتلقى البلاغات الخاصة بأعمال الفساد (خاصة الكبير) وفحصها، وإحالة الملفات المستكملة منها للنيابة. ويمكن الاستفادة هنا بتجربة تونس، حيث تم إنشاء هذه اللجنة بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام بن على وهروبه. وينبغى أن يضم تشكيل اللجنة عناصر قضائية، فضلا عن أطراف أخرى وممثلين للمجتمع المدنى المعنى والناشط فى مجال مكافحة الفساد. وتعمل اللجنة لفترة انتقالية لحين استكمال إنشاء هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد تؤول إليها مهام واختصاصات اللجنة، وكذلك البلاغات والحالات التى كانت تحت يدها خلال تلك الفترة. 2 وضع برنامج وآليات لاسترداد الأصول المنهوبة من الدولة فى مجالات حيوية مهمة. يتطلب الأمر هنا إنشاء لجنة تمثل فيها الأطراف المختلفة المعنية، بما فى ذلك عناصر متميزة مختارة من الأجهزة الرقابية، وخبرات فنية واقتصادية وقانونية فى المجالات التى يتم التركيز عليها، إضافة إلى ممثلين للمجتمع المدنى من الناشطين والخبراء فى مكافحة الفساد فى المجالات المستهدفة. ويقترح مبدئيا التركيز على قطاعات البترول والغاز، وأراضى وعقارات الدولة، وعمليات الخصخصة التى شابها تلاعب، والقروض الممنوحة من البنوك العامة، والجمارك والضرائب. ويمكن للجنة أن تتوسع فى أعمالها، وفى الاستعانة بكوادر وخبرات متخصصة بما يمكنها من تحقيق انجاز فى المهام الموكلة إليها، ووفق برنامج عمل يعلن عنه، وتقدم بشأن الانجازات المتحققة منه تقارير مرحلية يتم الإعلان عنها. 3 إنشاء هيئة وطنية مستقلة للنزاهة ومكافحة الفساد، تكون تابعة إما لمجلس النواب، أو لرئيس الجمهورية، وتكون معززة بالأدوار والصلاحيات والموارد والقيادات والخبرات التى تضمن فاعليتها منذ البداية. يعتبر إنشاء الهيئة المشار إليها ضرورة لا غنى عنها فى الحالة المصرية، التى تغلغل الفساد فيها وتشعب وأمسك بأغلب مؤسسات الدولة، ويشارك فيه أطراف من داخل وخارج هذه المؤسسات. ولا تملك مصر خيارا سوى هذا فى مقومات التصدى للفساد على أسس نظامية. وينبغى الإشارة هنا إلى أن القول الذى تردده الهيئات الرقابية والأجهزة والأطراف التى لا تود أن تتبنى مصر منهجا نظاميا لمكافحة الفساد والوقاية منه، من أن اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد UNCAC، تقول إن هذه المهمة يمكن أن تقوم بها هيئة أو هيئات، أى يمكن الاعتماد فيها على الهيئات الرقابية القائمة؛ تعتبر مقولة مغلوطة تستهدف حماية الأوضاع والصلاحيات الراهنة لهذه الهيئات. فالاعتماد على الهيئات الرقابية القائمة تنطبق على الدول المتقدمة التى قطعت شوطا طويلا فى الديمقراطية والتطور المؤسسى ولها رصيد طويل وناجح فى تحجيم الفساد. أما فى الدول النامية، والاقتصادات الصاعدة، والدول الساعية للديمقراطية التى لم تكتمل فاعلية منظومتها المؤسسية والسياسية والإدارية بعد؛ فالأمر مختلف تماما. فأغلب هذه الدول أنشأ هيئات مركزية مستقلة، خاصة بعد الانضمام والمصادقة على الاتفاقية الدولية. وقد بلغ عدد هذه الهيئات المركزية فى العالم الآن ما يزيد على 130 هيئة. ولا يمكن أو يتصور بعد ثورتين قامتا ضد الفساد أن تكون مصر استثناء من هذا التيار العالمي. وهناك مشروع قانون بهذه الهيئة أعده كاتب هذه السطور بناء على طلب من حكومة عصام شرف، وتمت مناقشته والموافقة عليه، لكنه لم ير النور. 4 إعداد إستراتيجية، أو خطة وطنية، لتعزيز النزاهة (الوقاية والمنع)، ومكافحة الفساد وردعه. لا يمكن التصدى والتحرك الفعال ضد الفساد وتحقيق نتائج ملموسة إلا إذا كان هذا وفق دراسة وأولويات وأهداف ومؤشرات أداء وانجاز محددة، وبرنامج يحتوى على مبادرات ومشروعات وأنشطة مجدولة زمنيا، ومسندة إلى أطراف وأجهزة وفق مسئوليات محددة، ووفق نظام وآليات لمتابعة التنفيذ، ومع توفير الدعم والمساندة السياسية المباشرة من أعلى مستوى (رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، واهتمامهما المباشر والمتواصل بالمبادرات والانجازات المتحققة، وتذليلهما للعقبات التى تصادف التنفيذ). وينبغى أن تحتوى الخطة على الأولويات المتعلقة بأهداف وسياسات وبرامج المكافحة والملاحقة فى جانب، وأهداف وسياسات وبرامج المنع والوقاية فى جانب آخر، مع تحديد القطاعات والمؤسسات ونوعيات الفساد وأنماطه وحجمه ودرجة وطأته وتأثيره التى يمكن التركيز عليها وإعطائها أولوية فى كل مرحلة من مراحل الخطة، حتى يمكن تحقيق نتائج فعالة. 5 إعادة هيكلة أجهزة الرقابة، وأجهزة الإصلاح الإدارى والحكومي، وإعادة توطين مسئولية الإصلاح والتصدى للفساد. يعنى هذا إعادة النظر بصورة جذرية وشاملة فى المنظومة الرقابية والتنفيذية بصورة تحقق تكامل ووحدة الهدف فى التصدى لظواهر الفساد. فلاشك أن الأجهزة الرقابية المركزية وتلك التابعة للوزارات والمحليات تحتاج إلى مراجعة وإعادة هيكلة شاملة لأدوارها وتنظيمها وآليات عملها، ومنظومة ومعايير مساءلتها عن العمل الرقابى الذى تقوم به. كذلك يحتاج الأمر إلى تعزيز نظم الرقابة الذاتية والداخلية فى الوزارات والهيئات والمحليات، وأن يستحدث نظام لرقابة المواطنين المتعاملين مع هذه الجهات (رقابة شعبية على ممارسات النزاهة والفساد)، ووفق معايير ومؤشرات دورية تقوم بإعدادها والإعلان عنها هيئة النزاهة ومكافحة الفساد المقترح إنشائها. وينبغى أن يتعزز هذا بتوطين مهام ومسئوليات الإصلاح والمسئولية عن الأداء وفق مؤشرات ومقاييس نظامية لتعزيز النزاهة والشفافية فى الأعمال والقرارات والممارسات، والمسئولية عن ممارسات وحالات الفساد لدى هذه الجهات التنفيذية. 6 القيام بمبادرات إصلاح وتعزيزات تشريعية للتصدى للفساد. من الضرورى اتخاذ مبادرات إصلاح وإجراءات وقائية ومانعة وأيضا رادعة، تتعلق برفع مستويات الأجور لموظفى الدولة إلى المستوى الذى يمثل حد النزاهة، وبحيث تمول الزيادة من وفورات إيقاف الهدر وترشيد الإنفاق فى مجالات أخري، ومن عوائد استرداد الأموال المنهوبة، ومن تحسين أداء ونزاهة وإصلاح الأجهزة الإيرادية فى الوزارات المختلفة مثل وزارة البترول والطاقة والهيئات التابعة لها، وأجهزة الضرائب والجمارك بوزارة المالية، وأجهزة أملاك الدولة بوزارة الإسكان والمحليات، وغيرها. وينبغى أن تقترن الزيادات الجوهرية فى الأجور بإجراءات رقابية رادعة ضد فساد الممارسات، خاصة فى المجالات والقطاعات الحيوية ذات الأهمية السابق الإشارة إليها. سيتطلب الأمر أيضا أن يقوم البرلمان الجديد بمبادرات تشريعية لتشديد العقوبات على الفساد، وحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا فى وقائع وقضايا الفساد، وحق المواطنين فى المعلومات المتعلقة بالممارسات الحكومية وشفافية الموازنة والإنفاق الحكومي، ومنع تعارض المصالح. يضاف إلى ما سبق، ضرورة أن يتضمن مجلس النواب القادم لجنة متخصصة للنزاهة ومكافحة الفساد، تكون على تواصل مع الهيئة الوطنية المقترحة، وأجهزة الرقابة، وتتابع تقاريرها وبرامجها وأعمالها، وتكون رقيبا على السياسات التى تتبناها الحكومة للتصدى للفساد. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور