هناك عدد من الموضوعات التي تمثل ركائز في البنية المؤسسية للدولة لها انعكاسات مستقبلية علي أداء وتقدم المجتمع, لأنها ترتبط بتوزيع السلطات ومنظومة المساءلة, وهو ما يسمي بحوكمة الدولة. تمثل الاتجاهات السائدة لدي لجنة الخمسين فيما يتعلق بتقليص سلطات الرئيس رد فعل لخبرة المصريين بالنظام الجمهوري منذ إعلانه في 1954 التي تركزت وتضخمت فيها سلطات الرئيس دون توافر آلية نظامية ومنتظمة لمساءلته. ومع أهمية إدخال التقييد لسلطة الرئيس, وتأكيد وضع ضوابط ضد تغولها علي سلطتي التشريع والقضاء, فإن المطلب الحقيقي هو استحداث آلية نظامية مستمرة للمساءلة, وليس فقط عند ارتكاب الرئيس لما يستوجب محاكمته أو عزله. وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن تحقيق طفرة في التنمية وتقدم المجتمع خلال العقود القادمة, سيحتاج إلي رئيس يملك مواصفات الزعامة يستطيع قيادة التغيير العميق والشامل المطلوب في المؤسسات وفي المجتمع. من المؤكد أن خبرة العقود الستة الأخيرة في التشريع شهدت تغول الحكومة علي السلطة التشريعية في مبادرات اقتراح وتعديل التشريعات. وأصبح عرفا مستقرا أن تعد أغلب مشروعات القوانين من قبل السلطة التنفيذية, وأن تكتفي السلطة التشريعية بمناقشة هذه الإقتراحات ثم إصدارها, وهو تنازل عن دور أصيل لها. ليس هذا فحسب بل إن دور الحكومة في وضع اللوائح التنفيذية للقوانين, هو الذي يحدد المضمون الحقيقي للنصوص القانونية ويبعث فيها الحياة وفق مقاصد واضعي هذه اللوائح وليس بالضرورة وفق مقاصد من أصدر القوانين. وكثيرا ما تم تغيير ما استهدفه القانون من خلال التفاصيل التي تحتويها اللائحة التنفيذية له. كذلك فإن الحجم المتضخم لمجلس الشعب خلال العقود الأخيرة كان مانعا لكفاءة الأداء فضلا عن الأعباء التي يمثلها هذا الحجم بالنسبة للموازنة. وإذا تم تمثيل كل دائرة بنائب واحد وليس نائبين سيمكن تخفيض هذا العدد إلي النصف. كذلك ليس من المنطقي العودة لمجلس الشوري تحت مسمي جديد( مجلس الشيوخ), ومنحه صلاحيات تشريعية, حيث لا توجد ضرورة حقيقية لهذا المجلس إذا كان الهدف هو تحقيق الفاعلية والكفاءة. لم تحظ الإدارة المحلية وأجهزتها في الدساتير التي تعاقبت علي مصر بالاهتمام الواجب رغم كونها نقاط التماس المباشر مع المواطنين ومجتمعاتهم المحلية, والآلية التي يمكن أن تحقق الانطلاق والتوازن في التنمية بين أقاليم ومناطق الدولة. وظلت سلطات المحافظين والأجهزة المحلية الأدني وأدوارهم في التنمية محدودة بحكم محدودية صلاحيتهم ومحدودية الموارد المتاحة لهم, وهيمنة الحكومة المركزية علي هذه الصلاحيات والموارد. هناك ضرورة لأن يتضمن الدستور الجديد نصوصا تحدد أقاليم الدولة وتحدد آليات عملها وتنص علي أدوار وصلاحيات المحافظات والأقاليم في مجال التنمية, بما يفرض تحقيق اللامركزية ويؤكد معها آليات للمساءلة تلازم نقل السلطات والصلاحيات إلي المحليات, درءا للفساد وتأكيدا علي المسئوليات التنموية. لأن هيكل الحكومة غير محدد في الدستور ومتروك للسلطة التنفيذية, فقد تضخم تشكيل الحكومة خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلي درجة تعطل التنسيق والتكامل في السياسات والبرامج الحكومية, نتيجة تشتيت وتفتيت المسئوليات عبر وزارات عديدة. ليس هذا فحسب بل إن عدم الإستقرار في هذا الهيكل نتاجا لعمليات الدمج والفصل عبر تشكيلات الحكومة أضاف مشكلات جديدة. وهناك مطلب ملح الآن أن يوجد نص دستوري يضع ضوابط علي حجم الهيكل ويمنع نزعه تجزئة المسئوليات الوزارية ويحقق الاستقرار النسبي في هيكل مجلس الوزراء. وليس المقصود هو وضع هيكل جامد, وإنما تقييد السلطة التنفيذية في نزعتها للتوسع والتجزئة والتغيير المستمر غير المبرر في الهيكلية العليا للحكومة. هناك حاجة ماسة لاستحداث هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد, تقوم بأدوار مهمة لا تباشرها هيئات الرقابة القائمة, وتستجيب لما نصت عليه إتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد والتي وقعت وصادقت عليها مصر, فهناك حاجة لأدوار أخري تقوم بها الهيئة المقترحة لمواجهة الفساد مما لا تقوم به أي من الأجهزة الرقابية القائمة وهي:(1) وضع ومتابعة تنفيذ إستراتيجية وطنية للوقاية والمكافحة;(2) رسم سياسات وبرامج الوقاية من الفساد ومنعه;(3) تنسيق عمل وأدوار هيئات الرقابة في مجال المكافحة والملاحقة;(4) تنسيق عمل أجهزة الإصلاح والتطوير في مجال الوقاية والمنع;(5) اقتراح التشريعات والتعديلات التشريعية الموجهة ضد الفساد; لقد احتوي دستور2012 علي نص بإنشاء مفوضية لمكافحة الفساد. ورغم أن النص لم يكن مكتملا لإعطاء الكيان الجديد القوة والصلاحية التي تضمن فاعليته, فلا يعقل في بلد قامت فيه ثورتين منذ2011 كان الفساد سببا رئيسيا فيهما, ألا يحتوي الدستور الجديد علي نص ينشئ الهيئة المقترحة ويضمن لها الإستقلالية والأدوار والموارد التي تمكنها من مواجهة آفة الفساد التي تغلغلت واستفحلت في مصر خلال العقود الأربعة الأخيرة. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور