بابان كبيران في النظم السياسية في البلاد, وهما في الأصل وفي ذات الوقت, جناحان متلازمان, لأنه حيث توجد السلطة, أي سلطة, فإنه لابد وحتما ان يترتب عليها المسئولية. وعلي قدر السلطة تكون عظم المسئولية, فإذا افترقت السلطة عن المسئولية, وصارت وحيدة بعيدة عن المساءلة والحساب, فلسوف تؤدي حتما الي الدكتاتورية والاستبداد والانحراف, وعلي العكس إذا تغنينا بالمسئولية.. وتجردت من السلطة, كنا أمام سراب في الهواء أو أمام كبش فداء, فمن الظلم أن يتحمل واحد من أحاد الناس المسئولية, لأن السلطة تكون في واد, والمسئولين ومن حمل المسئولية في واد آخر! * هذه الفرضيات ذات أهمية بالغة, وتزداد أهميتها في واقعنا المعاصر, فالسلطات الثلاث, القضائية والتشريعية والتنفيذية, وقد أضيفت إليها عندنا, الصحافة وهي سلطة شعبية رابعة, كلها سلطات تصاحبها حتما المسئوليات حتي تكون السلطة مسئولة, ولأن هذه السلطات يمارسها أصحابها, فإن المسئولية تكون ملقاة علي من يمارسونها.. إذ إنها ليست ميزة لأحدهم.. وإنما هي واجب ومسئولية, يجب أن تتحقق في كل مرة الغاية منها, بل قد تكون السلطة أحيانا وبالا علي أصحابها, لأنها تفرض عليهم القيود والموانع, حماية لها وحماية لهم من أنفسهم, ولهذا تأتي السلطات في مرتبتها تالية للحقوق والحريات, وتأتي الأخيرة مقدمة عليها.. لأنها أقوي منها.. ولأن السلطة مقررة أساسا لحماية أصحاب الحقوق والحريات وتعزيزها, ولهذا كانت مقدمة عليها.. لأن السلطة تأتي لحمايتها. * فلو أخذنا هذا الكلام, وهو ماقد يراه البعض واقعا في باب الفلسفة, أو في دائرة الفروض النظرية, واتجهنا به صوب الواقع المعاصر, ومايجري في البلاد, سواء في العلاقات بين سلطة القضاء والمحاماة, وهي شريكة لهذه السلطة في تحقيق العدالة.. وسيادة القانون وكفالة حق الدفاع, لهذا كانت العلاقة بينهما دوما وعلي مر التاريخ تحظي بالمهابة والتوقير والاحترام المتبادل.. بل صار هذا الاحترام المتبادل بموجب نصوص في قانون المحاماة بلغت مواده خمسة عشر في باب الحقوق.. ومثلها تماما في باب الواجبات في ذات القانون, ومع ذلك نراها قد غابت عنا, وفي باب السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية فإن ماجري في الانتخابات أو مايحدث من قضايا وقصص وروايات في باب العلاقة بينها وبين غيرها من السلطات ومنها أيضا سلطة الاعلام والصحافة وعلاقتها بالناس, نشاهد وقائع أحداث, وكأننا في عالم من الخيال حتي يكاد الناس لا يصدقون مايشاهدون وكأن السلطة في واد والمسئولية في واد آخر. * والغريب ان هذه المسألة السلطة والمسئولية ليست جديدة, ففي مصر المحروسة منذ لائحة المجلس الأعلي في12 يوليو1833 أي منذ أكثر من مائة وسبعين عاما, وقبل إنشاء مجلس شوري النواب, وجه محمد علي باشا رسالة الي أعضاء المجلس العالي بالقلعة,( نبه فيها علي جميع نظار المصالح وسائر المستخدمين, أنهم مسئولون عن الخير والشر في البلاد, وعن الأعمال التي يبذلونها صغيرا كان أو كبيرا, وعليهم ألا يستخدمون الناس قهرا, وأن حسن تصريف الأمور منوط بإنفاذ القوانين واللوائح وهو واجب في ذمتهم, فإذا مااقترفوا أمرا مخلا بشرف الإنسانية أو مخالف لشرط الانتماء, يكون العقاب عليهم لأنفسهم وعبرة وعظة لغيرهم, كما يجب ان يكون الجميع سواسية لايحاز فيهم بين كبير وصغير, وإلا اقتضي الأمر تطبيق العقوبات عن أي ضرر, أو عند الاختلاس والرشوة, والحيلة عليها أنها هدية وعن المحاباة والتمييز, وأن أي مسئول كبيرا كان أو صغيرا إذا استعمل نفوذ الحكومة بنفسه أو بواسطة غيره استعمالا مقصودا به الاستفادة أو الكسب كان جزاؤه الاعتقال.. وأنه يجب مؤاخذته, ولأن المصالح ممن يسلك منهم مسلكا مخالفا لمضمون اللوائح يكون له تربية ولغيره عظة وعبره). * وكأن الوالي منذ مائة وسبعين عاما, كان مكشوفا عنه الحجاب.. إذ أكد لنا أنه,( إذا أسفر قرار المسئولين عن ضرر فليس ببعيد أن يظهروا الأمر علي غير صورته, تفاديا للمؤاخذة ماداموا هم الذين ترجع إليهم الدعوي لنظره في المرة الثانية, ويجب ألا يستر كل واحد منهم أخطاء صاحبه!!), وقد تأكدت هذه المباديء والقواعد مرة أخري في مواد قانون السياستنامة الصادر في يوليو1937 وظلت القواعد تزداد تحسينا وتجويدا وصياغة.. بل وصرامة مع تطور الزمان. ومع ذلك بقي الحال عندنا... فكل يوم نسمع عن المهرولين إلي السلطة.. والساعين وراءالحصانة.. والمشتاقين إلي المناصب والسلطات, مع أن القاعدة الأصولية تقول لنا... من طلب الولاية لايولي, وهم في سعيهم هذا لايتذكرون إلا جانبا واحدا من المقاصد وهو السلطة, ولايفكرون إلا في اتجاه واحد وهو المزايا والعطايا, ولايعبأون إلا بالوجاهة والزهو, ويتجاهلون الجانب الآخر من السلطة وهو المسئولية, سواء كان ذلك إهمالا... أو قصدا, رغم عظم شأنها, جزاء حسابا, وهو ماحرص عليه الدستور وأجادت نصوصه في بيان السلطات ومقابلتهابالمسئوليات. فالناس من حقها أن تنعم بالحقوق بكافة صورها التي عددها الدستور المصري... منها المساواة.. وتكافؤ الفرص.. حق المعرفة... والعلم.. ومن حق الناس أن تحظي بالاستقرار والأمان والحماية عند استعمال حق الشكوي.. في مواجهة دائرة السلطة عند الانحراف أو اللامبالاة, وأن تأمن ضد الانتقام والعناد أو المكابرة والتلفيق, ومن حق الناس أيضا أن تأخذ من تصريحات المسئولين ووعودهم سبيلا لرسم صورة المستقبل لهم ولأسرهم.. حتي لايضيع الوقت وتفسد الذمم, ومع ذلك فإن الطبيعة البشرية أو معظم الخلق خلقوا ضعافا... ومن خصائصهم السهو والنسيان.. لهذا نشاهد التجاوزات جهارا نهارا.... والانحراف علنا.. ووقائع الرشوة.. تصريحا وتلميحا... والتربح سباقا, واستغلال السلطة ظاهرة.. ثم مايلبث أن يقع المتلبس في دائرة الضبط والقبض والمحاكمة وتتكرر المشاهد بغير عظة أو موعظة! وحتي نحاصر الانفلات ونضع القواعد والضمانات.. وننجح في الوقاية قبل مواجهة القضايا والفساد.. أو يضيع الوقت في كثرة التحري.. والاستدلالات.. والتحقيقات.. والمحاكمات أو في الحديث عن القصص والروايات, علينا أن نعلي ثقافة المسئولية ونعظم من شأنها, وأن نقيد السلطات ونحيطها بضمانات وقواعد موضوعية تحميها, وتحمي المسئولين من أنفسهم, وتبعد بهم عن مظنة الشبهة والانحراف والاستغلال والمحاباة, وأن نجعل من سيادة القانون, كما قال الدستور ونبهنا في إعلان وثيقته, الأساس الوحيد لمشروعية السلطة, أي سلطة, وضمانا لحقوق الفرد وحرياته في نفس الوقت, وهذا أمر طبيعي لأن الشعب هو مصدر السلطات.. فيجب أن يكون نفعها عائدا عليه وحده. وإذا كان الأمر كذلك منذ لائحة محمد علي في الرسالة التي وجهها إلي المجلس العالي في القلعة.. وجودها وعظم من شأنها دستورنا القائم, فكيف لنا أن نصدق مايجري فنشاهده ونسمع عنه من سلطات مطلقة بغير قواعد أو ضوابط... ومحاباة ظاهرة... وتمايز بين الناس... في الوظائف الكبري.. أو المناصب الهامة.. دون إعلان أو تكافؤ. وقصرها علي أصحاب الحظوة من بين الشيوخ أو حتي من بين الشباب, وفي باب الحقوق الدستورية والواجبات نشاهد التجاوزات, وفي باب السلطة المطلقة يفاجأون بتخصيص الأراضي في بر مصر المحروسة بالآلاف دون مصلحة عامة أو رقابة مشروعة أو حتي متابعة.. ووجود الامتيازات والاحتكارات بالجملة لأفراد وجماعات بذواتهم.. كل ذلك خلق الفزع في المجتمع, وغرس الإحباط والقنوط, وانقلبت معه الهياكل الاجتماعية في البلاد.. واختلت مواقعها.. واتسعت دائرة الصراعات حتي بدت الحرائق مشتعلة في كل مكان.. بمناسبة أو دون مناسبة.. وانتشرت الشائعات.. وصارت أقرب إلي الحقائق التي يميل الناس إلي تصديقها. والغريب أن هذه المسألة أي السلطة.. والمسئولية إذا اختل التوازن بينهما.. واتسمت بالغلو الذي هو منهي عنه حتي في الأديان( سورة المائدة77), فإذا لم تعل المسئولية علي السلطة, أو انكشف الستار عن الانحراف والفساد أصبحنا في خبر كان, خاصة وأن مكافحته لم تعد تقف عند حد رسالة محمد علي إلي المجلس العالي بالقلعة.. أو في بيان نصوص دستورنا المصري... أو حتي التشريعات العقابية, بل امتدت مكافحة استغلال السلطة ومكافحة الفساد التزاما بموجب الاتفاقات والمواثيق الدولية.. ولم تعد المنظمات الدولية تكتفي بالتقارير والأوصاف, بل صارت الدول, ومنها مصر المحروسة, ملتزمة بمكافحة استغلال السلطة والفساد.. وتعزيز الشفافية والنزاهة.. والفصل بين المصالح الخاصة والمصالح العامة... كل ذلك التزاما علي الدول ومنها مصر التي سارعت فصدقت عن اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد.. ولم يعد الأمر واقفا عند ترتيب البلاد في جدول التنمية والفساد ونشر هذه التقارير.. بل صار في دائرة الرقابة والجزاء.. وفقا لما اتفقت عليه الدول الأعضاء في اتفاقية مكافحة الفساد الذي دعت إليه الأممالمتحدة في مؤتمر الدوحة خلال الأشهر الماضية. وصار التزاما داخليا ودستورا دوليا في مواجهة السلطة.... حتي نوقظ الضمير والأمل وتنعم البلاد بالخيرات.. ونعني المسئولية والمساءلة علي زهو السلطة!!