في الحقيقة لا أفهم: لماذا يترشح عمر سليمان لمنصب رئيس الجمهورية؟! وسؤالي ليس موجها إلي عمر سليمان, فالرجل كان واضحا وحسب البيان الصادر منه هو لم يفكر في الترشح مطلقا, وأنه كان يفضل أن يأخذ استراحة محارب, ويمضي أيامه في هدوء وسكينة بعيدا عن وجع القلب العام.. سؤالي موجه إلي المصريين, وأولهم هؤلاء الذين قادوا حملة الضغط علي عمر سليمان ليرشح نفسه, وهؤلاء الذين منحوه التوكيل بذلك؟! سؤالي إلي عامة المصريين, لأنه متعلق بأحلامهم في التغيير, تغيير نظام أفسد حياتهم, وخسف بها الأرض, فعاشوا في ذيل الأمم وسط مشكلات وأزمات اختفت تقريبا من دول أقل مكانة من مصر, هل يوجد شعب يتعارك كل يوم علي أنبوبة بوتاجاز, ورغيف عيش مدعم, وكرسي في اتوبيس عام وشقة بالقرعة, ومقعد في مدرسة ابتدائي, وتشجيع في مباراة كرة قدم..الخ؟ هل عدنا إلي المربع صفر كأنك يا أبو زيد ما غزيت, ونعيد تسليم أنفسنا مرة ثانية رهائن لدي النظام الذي ثرنا عليه؟! وسؤالي لكم مرجعه أن الرجل رشح نفسه وهو شبه متأكد من الفوز, فليس معقولا أن شخصا في حجم عمر سليمان نازل إلي ساحة الانتخابات من باب التجريب والمناورات.. أي كيف يثق في أنكم سوف تعطونه أصواتكم التي بحت من الصراخ في الميادين العامة: الشعب يريد إسقاط النظام؟! قد تسخرون مني: ومالنا ومال ثقته..كل إنسان حر فيما يعتقد؟! طبعا الإجابة خاطئة.. لأن عمر سليمان ليس شخصا عاديا.. أنه رئيس جهاز المخابرات العامة السابق.. أي رجل معلومات وتحليل ولايأتي أفعالا اعتباطية..بمعني أن لديه علي الأقل الحد الادني من المعلومات التي دفعته إلي الإقدام علي هذه الخطوة. فهل نحن المصريين نكره أنفسنا إلي هذه الدرجة؟! أما هؤلاء الذين قادوا حملة الضغط لترشيحه..فسؤالي لهم أسهل كثيرا: ولماذا عمر سليمان وتتركون الرئيس السابق حسني مبارك؟..فإذا كنتم متيمين بالنظام القديم الذي يحكمنا ولا نستطيع تغييره.. فكيف ندع رمزه الأكبر متهما ومحبوسا علي ذمة قضية قتل المتظاهرين ولا نفرج عنه ونعمل له زفة بلدي من المركز الطبي إلي القصر الجمهوري؟!..فعلي الاقل حسني مبارك أكثر خبرة بحكم مصر والدور المطلوب منها من أي إنسان آخر؟ طبعا بعض القراء سوف يتصورن أنني أسخر, وصحيح أن شر البلية ما يضحك, لكن ما نحن فيه الآن يتجاوز شر البلية, إلي شيء يصعب وصفه أو تقديره, لكنه من المؤكد هو دليل مادي بالصوت والصورة, علي أننا نعيش واحدا من أسوأ عصور الانحطاط في تاريخنا كله.. وهذه أزمة ثورة25 يناير في جوهرها.. ثورة اندلعت في شعب يتراجع فكريا وحضاريا.. وهذا هو الفارق الرهيب بين ثورتنا والثورة الفرنسية, الثورة الفرنسية كانت بعد قرنين ونصف قرن تقريبا من بداية عصر النهضة الأوروبية.. كانت في منطقة تستكمل عملية التخلص من القرون الوسطي وعصور الظلام الحضارية, وتحاول أن تبني لها وجودا جديدا مختلفا عما سبقه.. كانت علوم جديدة تستحدث ونظريات جديدة تبتكر, واستكشافات جغرافية تحدث, وتطورات علمية وفكرية تتلاحق, وكان الفرنسيون يسهمون بقسط كبير في الأفكار الجديدة, وكان فلاسفة ومفكرون وشعراء وأدباء فرنسيون يبهرون أوروبا بما يكتبونه ويذيعونه علي الخلق, بينما عامة الشعب الفرنسي يعاني الفقر, وتكاد باريس تفر من قذارة شوارعها والفجوة الطبقية بين الاغنياء والأغنياء أوسع من ثقب فضائي..لكن شعاع التغيير والثورة كان واصلا إلي أبسط الأزقة, والافكار الجديدة تلمع فوق الرؤوس سواء كانت تستوعبها أو لا تستوعبها وتبث وعيا وإدراكا وحيوية. أما ثورة25 يناير فقد اندلعت في زمن رديء يتسم بانحطاط عقلي واضح وجلي, ليس فقط في التصرفات في الشوارع والميادين ولا في التحرش الجنسي الجماعي, ولا في العشوائيات التي شوهت كل حياتنا تقريبا, ولا في الزبالة التي فشلنا في التعامل معها.. وإنما في أشياء أعمق من ذلك بكثير, في نوعية الغناء والفنون والأفكار التي نتداولها, في الطريقة التي ندير بها كل مصالحنا ومؤسساتنا, في الأداء المهني الرديء, في أنصاف الموهوبين الذين ملكناهم أمورنا حتي في الأعمال التي لا يجوز أن يقتربوا منها.. في الصراعات الطائفية الي خضناها ضد بعضنا البعض, في القبح الذي يحيط بنا, في الثقافة العامة, في الكتب التي توزع علي الأرصفة وفي المكتبات.. في مظاهر التديين, التي تصر علي الشكل دون جوهر الدين ومقصده, والتديين غير التدين, التديين حالة عصبية متوترة العقل فيها معطل, التدين حالة عقلية عميقة فيها فهم ومحبة وتسامح وسمو. إلي حد كبير نحن نعاني تدهورا في التفكير ناجما عن فساد التعليم والإعلام.. واستغلال الدين. وحين اندلعت الثورة..كان مشعلوها من أجيال تحاول التمرد علي الانحطاط العام, لكنها أجيال لم تكن بالكثرة الواجبة التي تصنع تيارا قويا في المجتمع, صحيح أن18 مليون مصري نزلوا إلي الشوارع والميادين ثائرين ضد الظلم والنظام الفاسد.. لكن سرعان ما عادوا إلي حياتهم الرتيبة.. خاصة مع الانفلات الأمني والانفلات الفئوي والانفلات السياسي.. كانت البيئة مناسبة جدا..لإجهاض حلم الثورة في التغيير, لمصلحة ورثة امتيازات الحزب الوطني والسلطة الحاكمة, فالورثة الجدد هم بطبعهم ضد التجديد والتغيير, فهم يتصورون أن الأمة يمكن أن تنهض باستنساخ الماضي, مع أن هذا التصور لم ينجح علي الإطلاق في تاريخ البشرية منذ خلق الله آدم وإلي الآن. ولكن.. مازلت أؤمن بأن الشعب المصري مثل جبل ثلج عائم, الجزء المختفي منه أكثر بكثير من الجزء الطافي.. صحيح هم أوقعونا في حبائل المشكلات المفتعلة وصنعوا بنا وفينا كل الأزمات الممكنة حتي نستسلم ونعيد إنتاج النظام القديم..لكننا لن نفعل لأننا لو انتجنا النظام القديم فسيكون أكثر شراسة وعنفا!. فهل يمكن أن نسقط النظام القديم ومعه الذين ورثوا الحزب الوطني؟ المزيد من مقالات نبيل عمر