لا يخلو مجلس الآن من الحديث عن الانفلات الأمني, والأخلاقي الذي أصبح ظاهرة تشوه وجه الثورة المجيدة..فمن البلطجة والسرقة بالإكراه, إلي حمل الأسلحة النارية والبيضاء علنا وترويع المواطنين أصبح الشارع المصري في حالة لايحسد عليها, والجميع يتساءل: متي تعود مصر بلدا للأمن والأمان؟! ورغم حالة الانفلات الأخلاقي التي نعيشها حاليا, فإن عددا من علماء الاجتماع يرون أن المشهد السياسي, كمرحلة انتقالية بعد ثورة25 يناير, مازال في بدايته, فالثورة مازالت قائمة, والانفلات في الشارع حالة طبيعية تعقب الثورات الشعبية الكبري, بل إن ما يحدث عندنا أقل بالمقارنة بالفترات التي أعقبت الثورات التاريخية الكبري. فالثورة الفرنسية والتي نقلت المجتمع الفرنسي من المرحلة الإقطاعية إلي الرأسمالية استمر الصراع بعد اندلاعها لسنوات طويلة نتيجة لانتشار الثورات المضادة, والشائعات والدسائس مما تسبب في انقسام الثوار وساءت الأحوال الاقتصادية وانتشر الفقر وازداد الناس بؤسا لتعم البلاد عمليات الخطف والاستيلاء علي الممتلكات الخاصة, وانتشرت البلطجة وتفشي الجوع والخوف, وجاء أول رئيس لأول جمهورية فرنسية بعد15عاما من الفوضي والمذابح. أما الثورة البلشفية, والتي نقلت المجتمع الروسي من نظامه الامبراطوري إلي الاشتراكية أعقبها صراع, حيث تكتل أعداء الثورة للاطاحة بالبلاشفة, وبذل لينين جهودا جبارة وتعرض لمحاولة اغتيال, فأصيب برصاصتين, ولكنه نجا من الموت إلا أن واحدة منهما استقرت في عنقه, وبدأ المعارضون للحكم الاشتراكي في القيام بأعمال عنف في المدن, وتحولت تلك الأعمال إلي ما يشبه الحرب الأهلية, واستمرت هذه الصراعات بين البلاشفة والملاشفة أعداء الثورة لمدة3 سنوات. في حين اختلف علماء الاجتماع وهم بصدد تفسيرهم لحالة الانفلات الأخلاقي التي تعيشها مصر, فمنهم من يري أننا مازلنا في مرحلة الثورة المضادة, والبعض يري أن مصر في حالة بناء نظام سياسي واجتماعي ولابد من ظهور تصادم بين الثقافات والأفكار, وآخرون يرون أن النظام السابق خلف إرثا من التشوهات الأخلاقية في المجتمع تسبب بطرق مباشرة أو غير مباشرة في حالة الانفلات الأخلاقي والفوضي التي نعيشها الآن. الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية يري أن التغيير في الثقافة والأخلاق والعادات التي كانت موجودة قبل ثورة25 يناير يحتاج لوقت كبير, فاستبداد النظام السابق خلف قيما معينة منها النفاق والكذب والبلطجة وعدم احترام القانون, بل عمل علي عدم حل مشاكل تمس المواطنين مثل السكن والبطالة لإحداث البلبلة واشغال المواطنين, وهذه القيم ليس من السهل أن تحل محلها قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والشفافية والمواطنة. ويشير الدكتور سعيد إلي أن النظام السابق وضع مصر ضمن دليل الدول الفاشلة عام2005 طبقا للتقرير السنوي الذي أعده صندوق دعم السلامPeaceTheFund وهو مؤسسة بحثية مستقلة, ومجلة فورين بوليسي الأمريكيةForeignPolicy, وقد أحصي هذا التقرير05 دولة هي الأقرب لأن تكون دولا فاشلة, وجاءت مصر رقم38 اعتمادا علي12مؤشرا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, وتم جمع البيانات المتعلقة بها من عشرات الآلاف من مصادر الاعلام الدولية والمحلية المقروءة والمسموعة والمرئية, ومن بين المؤشرات التي اعتمد عليها التقرير فساد النخبة الحاكمة وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية وغياب القانون وتقييد الصحافة وانتشار انتهاكات حقوق الانسان كتطبيق قانون الطوارئ والاعتقال السياسي, وكذلك غياب التنمية الاقتصادية وتزايد مستويات الفقر وغياب العدالة الاجتماعية وعدم المساواة في التعليم والوظائف والدخل, والانحطاط في الدخل القومي وتقييم العملة الوطنية ومعدل النمو, وهجرة العقول من الدولة والاغتراب داخل المجتمع. ويري الدكتور سعيد أن حالة الانفلات الأخلاقي هي جزء من النظام السابق لم يتغير مضمونها, وثورة25يناير كحدث أو عملية تاريخية مازالت قائمة, ومازلنا نعيشها, فهي تمر بأربع مراحل أولاها اندلاع الثورة, ثم تأتي الثورة المضادة والمرحلة الثالثة والتي نعيشها مرحلة التحول وانشاء نظام اجتماعي وسياسي بديل وتنتهي بالبدء في مرحلة تثبيت هذا النظام الجديد, ومرحلة انشاء نظام جديد تصطدم فيها الأفكار والاتجاهات ويسودها دائما نوع من القلق والانتكاسات وتتخللها انتصارات, ويجب علي المواطن في هذه المرحلة عدم الاستعجال في حدوث نتائج, فهناك توقعات زائدة عن حدها تعتمد علي المنطق الثوري والرغبة في تنفيذها بأسلوب سريع. ويشدد الدكتور سعيد علي وجوب تكاتف عوامل كثيرة للعمل علي سرعة تغيير الثقافات والأخلاق الموجودة بالشارع المصري, ومنها التعليم من خلال التغيير في مناهج التعليم, وسلوكيات المدرس الذي يجب أن يعود كقدوة حسنة, والتثقيف السياسي للمواطن المصري وتوعيته من خلال الإعلام, والمواطن عليه أن يضع في باله أهداف الثورة من حرية وعدالة وكرامة وأن يقترن ذلك بوجود المسئولية. أما الدكتور سمير نعيم أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس, فينفي وجود حالة الانفلات الأخلاقي, ويري أنها محاولات للقوي المضادة للثورة لإحداث حالة من الفوضي واثارة الرعب لدي الشعب, وتشتيت انتباهه عن قضايا الثورة, فالنظام السابق كان هدفه الأساسي اصابة الشخصية المصرية بعاهة مستديمة تقعدها عن امكانية التمرد عليه واقصائه عن الحكم ونهبه لثروات مصر الهائلة, وعمل علي عدة محاور لتحقيق ذلك من خلال التعليم والاعلام والدين والحالة الاقتصادية, وتمكن الي حد كبير من نشر ثقافة اللامبالاة والاستهانة والخضوع للحاكم والتفكير الغيبي والاهتمام بالمظهر لا بالجوهر, إلا أن النظام لم يدرك أن ما يفعله مضاد لحركة التاريخ ولقوانين التغير الاجتماعي, حيث إن قطاعا لا بأس به من المجتمع قاوم ذلك كله واستطاع الصمود وتفجير الثورة ضد النظام بأسره. وأوضح الدكتور سمير أن الأدلة كلها تشير الي أن النظام لم يسقط بعد وهو الذي يخطط وينفذ كل أحداث الفوضي, فالغالبية العظمي من الشعب المصري ليست منفلتة أخلاقيا والخروج من حالة الفوضي التي نعيشها يعتمد علي ما اذا كانت الثورة ستنجح وتنتصر ام قوي الثورة المضادة هي التي تنتصر, فعندما كانت الثورة تسيطر علي الأمور داخل مصر خلال ال81 يوما في ميدان التحرير لم يكن هناك انفلات او فوضي علي الاطلاق وكل القيم كانت ايجابية, وكانت القيم السلبية تأتي من خارج ميدان التحرير كموقعة الجمل.. فمطلوب من المواطن المصري الصمود والتصدي لكل محاولات اجهاض الثورة التي كسرت حاجز الخوف لدي المصريين. وتقول الدكتورة سامية الساعاتي استاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس ان ما خلفه النظام السابق هو السبب في ظاهرة الانفلات الأخلاقي, حيث تعاون في السابق مع البلطجية لحماية النظام, وأصبح لدي المجتمع المصري كادر اسمه المنفلتون الذين كانوا يعملون لدي النظام السابق, ويستثمرهم من خلال رجال الأعمال, بل وأحيانا من خلال أجهزة الأمن للقيام بمهام معينة, وعندما رحل النظام أصبحوا عاطلين, ويمارسون سلوكياتهم في الشارع المصري سواء كان ذلك بشكل فردي لحسابهم, أو أن يستخدمهم أشخاص من اتباع النظام السابق لاحداث فوضي وبلبلة في المجتمع. وتري الدكتورة سامية أن ما يساعد علي انتشار الانفلات الأخلاقي هو اتباع سلوك القطيع, خاصة من الشباب والمراهقين الذين في الأصل يعجبون بنمط الفتوة, حيث يلفت نظرهم سلوك البلطجية مثل حمل سلاح ناري او ابيض فيحمله الشاب علي سبيل حماية النفس, وذلك تلقائيا يحرض علي البلطجة, واتباع سلوكيات القطيع يحدث بشكل مباشر او غير مباشر دون أن يدري الشخص, فكل ما يراه ان اعدادا كبيرة تسلك سلوكا معينا فيسلكه. وتؤكد الدكتورة سامية أن الخروج من حالة الانفلات يستوجب التعاون بين الوزارات المختلفة خاصة وزارتي التضامن الاجتماعي والتعليم, بالاضافة الي جهود الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني للعمل علي حل المشاكل التي تهم المواطن في الشارع المصري وأولاها القضاء علي البطالة, فالظواهر السيئة تولد ظواهر سيئة. وتشير الدكتورة عزة كريم, أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية, الي ظهور العديد من الأخلاقيات السيئة والعنيفة والعدوانية, وهي نتيجة طبيعية لحالة الاحباط والضغط المادي والنفسي الذي عاشه المواطن خلال النظام السابق تحت وطأة الظلم والاستبداد وعدم العدالة, فالنظام السابق كان ضاغطا علي الشعب وقام بحرمانه من الاحتياجات الأساسية, خاصة فئة الشباب, وهي أكثر الفئات التي بها اعداد كبيرة من البلطجية, حيث شعروا بضياع مستقبلهم وتولد لديهم- وهو شكل طبيعي- التمرد والعنف, وأيضا انتشرت بينهم المخدرات كنوع من أنواع الهروب من الواقع ذلك مع انتشار أمية الصغار واكتساب اعداد كبيرة لأخلاقيات الشوارع, وانتشار العشوائيات حيث أن فوق ال50% من الشعب المصري يعيش في العشوائيات ويتثقفون بثقافة الفقر وهي اللأخلاقيات, أيضا وسائل الاعلام لعبت دورا خطيرا في انتشار الأخلاقيات السيئة, لما كان يردده البعض من أن الغاية تبرر الوسيلة, وظهور البلطجية التي خلفها النظام السابق او التي خلفتها الظروف من سوء تعليم وفقر وبطالة, كل ذلك خرج فجأة للشارع المصري وأصبح جزءا من الشارع. وتؤكد الدكتور عزة أن الفترة الحالية هي صراع بين الأخلاقيات والاحتياجات فالمواطنون يطالبون بمطالبهم بتمرد وعدم خوف مما يظهر معه اخلاقيات سيئة, وللخروج من حالة الانفلات مطلوب القضاء علي البطالة بسيطرة أجهزة الأمن علي الشارع المصري. في حين يري الدكتور سعيد عبد العظيم أستاذ الطب النفسي أن الوضع الحالي من انفلات وفوضي أخلاقية كان متوقعا حتي ولو لم تكن هناك ثورة اندلعت في25 يناير, أن هناك عوامل كثيرة تضافرت لظهور هذا الوضع من بينها أن40% من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر, وهناك اغفال واضح لعملية التنمية, خاصة في صعيد وريف مصر, الي جانب عشرات العشوائيات التي تحيط بكل المدن, يضاف الي ذلك أن الطبقة الوسطي في المجتمع قد انكسرت, حيث لم يعد لديها الدخل المناسب لاعاشة أسرة, ونتيجة هذه الأسباب فهناك ملايين انتشر بينهم الجوع وعدم التربية والتدين, وأصبح لدينا ملايين بلا مباديء وأخلاق, ولهم تسعيرة تستطيع أن تشتريهم بسهولة خاصة من أصحاب رؤوس الأموال واصحاب الاتجاهات السياسية والدينية لاثارة الفوضي والقيام بأعمال معنية تخدم مصالحهم. والملايين التي تعيش تحت خط الفقر في العشوائيات والذين حرموا من التعليم ومن ايجاد فرصة لحياة كريمة هم جميعا ضحايا للنظام السابق ضمن مسلسل قتل المواطن المصري, والذي بدأت حلقاته من عام1952, ويتعين علي الدولة اعداد هذه الفئات وتشغيلهم ضمن مشروعات قومية كبري للقضاء علي ظاهرة البطالة, كذلك لابد من اقتحام العشوائيات وايجاد سكر بديل لقاطنيها وعمل برامج تأهيلية وتوعية ومراكز اعداد مهنية لهم لأن مصر لديها قوة بشرية ينبغي الاستفادة منها.