يوافق الأحد المقبل اليوم الذى رحل عنا نجيب محفوظ فيه قبل تسع سنوات مضت. فى يوم ما زال حياً فى حبة القلب كأنه جرى بالأمس. فى العام المقبل سيكمل نجيب محفوظ عشر سنوات من الغياب. ربما كان فى هذا العنوان قدر من التضليل. فالغياب غياب جسدي. بمعنى أننا لا نقابله ولا نجلس معه ولا نستمع لكلامه ولا نشعر بضحكته المجلجلة الصادرة من قلبه. لكن ما تركه الرجل من نتاج أدبى غزير ومتنوع ونادر. أيضا ما بقى لنا من مواقفه وثقافته ورأيه فيما يجرى فى الحياة. ما زال معنا. هل فى القول إن جزءاً منه ما زال معنا قدر من التصور الشعرى للحياة؟ أو الوجدان الشعبى فى تعامله مع فكرة الغياب والحضور؟ بمعنى آخر هل هو كلام لا نجده فى الواقع ولكن نعزى أنفسنا به؟ عن نفسى فى لحظات كثيرة يخيل إليَّ أنه موجود. وأنه يقول رأيه فى بعض القضايا. وما زالت لصوته نبرات ولحضوره بصمة ولوجوده رائحة. تسع سنوات هذا العام. أو عشر سنوات العام المقبل. فترة ليست قصيرة. وإن كنا ما زلنا نتذكر نجيب محفوظ بالسلب. بلوعة الغياب. فإن مصر - حتى الآن - لم تحاول أن تجعل ذكرى نجيب محفوظ إيجابية. أى أن تفى له بحقه عليها وأن تنفذ ما جرى الإعلان عنه بعد رحيله. وبعد الرحيل فى 30 أغسطس 2006 شكَّل الفنان فاروق حسنى عندما كان وزيرا للثقافة لجنة لتخليد ذكرى نجيب محفوظ. كنت أحد أعضائها. وعقدنا الاجتماعات. وطرحنا التصورات والرؤي. واستقرت الآراء على أن أهم ما يمكن أن نقدمه لنجيب محفوظ إنشاء متحف له توضع فيه مقتنياته ويصبح مع مرور الوقت مدرسة للسرد العربي. القصة طويلة. وتفاصيلها محزنة. تبدأ من «شدة الغربال» وهو تعبير شعبى يسخر من الاهتمام الزائد عن الحد فى البداية الذى يعقبه تراخٍ ثم إهمال وأخيرا نسيان. فى المراحل الأولى قمنا بمعاينة أكثر من مكان لكى يكون مقرا لمتحف نجيب محفوظ. راعينا البحث عن أماكن مناسبة فى حى الجمالية. حيث ولد نجيب محفوظ وعاش وحيث ما زالت توجد الأماكن التى كتب عنها بأسمائها فى رواياته. بين القصرين وقصر الشوق والسكرية شوارع ما زالت موجودة. وهى تحمل أسماء ثلاثيته. خان الخليلى ما زالت بقاياه كما هي. وزقاق المدق ما زال موجوداً. وإن كانت تغييرات الزمن قد ظهرت عليه. وميدان بيت القاضى حيث ولد نجيب محفوظ ما زال موجوداً. صحيح أن البيت الذى ولد فيه تم هدمه وأعيد بناؤه. ولكنه يوشك أن يكون نسخة من البيت القديم. وقبو قرمز الذى ظهر فى أكثر من عمل أدبى لنجيب محفوظ ما زال قبواً. لم يتم هدمه. وإن كان قد تحول لمقلب قمامة للحي. ففى الزمن القديم عندما كتب عنه نجيب محفوظ كان معبرا بين مكان ومكان. وحياة وأخري. وفى لحظة العبور هذه أمسك نجيب محفوظ بقصص قصيرة كثيرة كتبها. حيث استثمر لحظة العبور تحت القبو بالنسبة لإنسان تعود أن يعيش فى ضوء الشمس ونور القمر. أكثر من مكان ذهبنا إليه. وقمنا بمعاينته. ثم استقر الرأى على وكالة محمد بك أبو الدهب. الكائنة أمام المقر القديم للأزهر الشريف أن تكون مقراً لمتحف نجيب محفوظ. وبدأت عجلة الإجراءات. تم تعيين المرحوم المخرج السينمائى المتميز توفيق صالح مديرا للمتحف. كان المكان يحتاج لبعض التجهيزات حتى يصبح متحفا للسرديات على مستوى الوطن العربي. وكانت هناك إجراءات روتينية لا بد من القيام بها. وحركة أوراق تروح وتجيء بين دواوين الحكومة مثل نزع ملكية الوكالة من هيئة الآثار التى أصبحت وزارة الآثار. لتئول ملكيتها لوزارة الثقافة. ومثل الاعتمادات المالية ومحاولة البحث عن مخرج للوكالة على ميدان الأزهر بدلاً من بابها الراهن على الباطنية. بادرت أسرة نجيب محفوظ بتقديم ما كان لديها من مقتنياته الشخصية لصديق عمره توفيق صالح الذى اشترط أن يتسلم المقتنيات موظف مسئول من وزارة الثقافة بموجب محضر رسمي. وما زالت المقتنيات موجودة لدى صندوق التنمية الثقافية باعتباره الجهة المسئولة عن إقامة المتحف. مرت سنوات على مقتنيات نجيب محفوظ لدى الوزارة دون أن يتحرك موضوع المتحف خطوة واحدة إلى الأمام. والرد جاهز قبل أن نسأل: لا توجد إمكانات مالية لإقامة المتحف فى مثل هذه الظروف الصعبة التى تمر بها مصر. لدرجة أن أسرة نجيب محفوظ تتساءل: أليس من حقها استرداد مقتنياته ما دام موضوع المتحف محلك سر أو خطوة للأمام خطوات إلى الوراء؟. لم يكن المتحف المشروع الوحيد. قدَّم الصديق جمال الغيطانى لمحافظة القاهرة مشروعا متكاملا حول المزارات المحفوظية. والفكرة قائمة على تحديد الأماكن التى كتب عنها نجيب محفوظ أعماله الأدبية. وظهرت فى رواياته بأسمائها فى أرض الواقع. مثل: خان الخليلي، زقاق المدق، قهوة قشتمر، وبنسيون ميرا مار بالإسكندرية. على أن تكون هناك إشارات فى الشوارع على شكل أسهم تقول لك إنه على بعد أمتار يوجد الأثر الفلانى لنجيب محفوظ. وما جرى مع المتحف جرى مع المزارات المحفوظية. اهتمت المحافظة وشكلت لجنة كنت أحد أعضائها. وكان معنا الصديق سعيد الكفراوى ومحمد سلماوى الذى كان رئيسا لاتحاد كتاب مصر. واجتمعنا وتدارسنا. لكن الأمر لم يخرج إلى الوجود. وإن سألت عن السبب ستجد إجابات لا حصر لها. لكن من المؤكد أن الأحلام والأمانى لم تتحول لحقائق على أرض الواقع. لا المتحف أصبح متحفا. ولا المزارات المحفوظية نراها الآن كمزارات. نعرضها للسياح الذين لا يحضرون إلى مصر فى الفترة الأخيرة. ولم يبق لنا نحن سوى أن نتذكر هذه المشروعات ونتحسر على مصائرها فى ذكرى رحيله مرة. وفى ذكرى ميلاده مرة أخرى دون أن نستمع لإجابة من أى جهة. لا من وزارة الثقافة. ولا من محافظة القاهرة. فهل تأتى الذكرى العاشرة لرحيله بعد عام لتجد أيا من المشروعات أو أحدها قد خرج للوجود وأصبح حقيقة مؤكدة؟ أتمنى وأحلم بذلك. لمزيد من مقالات يوسف القعيد