«لقد قطعت الجسور. غريب أنا. غير لائق. حر وغير ذي جدوي»أرتعد فوق مقعدي. لم أعد أستطيع رؤيتهم. هذا كمين. كل هذا مزيف. كذبة. هذيان. لقد رأيت. لم أكن أحلم. يوجد بُعد آخر. زمن حي . ريح. سحر لا أستطيع أن أنساه. لا يجب أن أنساه. في نفس الوقت لا أقول شيئا. لا أستطيع لقد تنازلت منذ وقت طويل عن إسماع صوتي لأحد. بداية ليس لدي كلمات كي أحكي. بقيت عيناي علي الشاشة الصغيرة كي لا أري ولا أسمع شيئا». هذا مقتطف طويل من قلب العمل الجميل المحير «تقرير عن نفسي» للكاتب والرسام الفرنسي: «جريجوار بوبيه» في ترجمته العربية الناصعة التي قام بها الكاتب الفنان ياسر عبد اللطيف (صادر عن دار كتب خان للنشر) العمل محير لأنه يقع بين السيرة الذاتية كما يكتب المؤلف علي عنوانه وبين الرواية الخيالية. يقع بين الشعر والسرد والرسم بالكلمات. يقول أنه لا يقدم معني أو «فلسفة»، وهو مع ذلك مليء باللحظات المضيئة، التي تكشف حيرة الروح الأوروبية الحديثة المتعبة. العمل يحكي في صوت واحد لا يتوقف ولا ينقطع، طفولة ومراهقة وشباب وكهولة رجل باريسي ولد في 1960 في مدينة تيزي أوزو (عاصمة القبائل) إبان الحرب الفرنسية ضد الجزائر. هو ابن الحرب، إلا أن أمه تقول له أنت ابن الحب حيث كانت تعاشر رجلا، طبيبا يعمل هناك غير والده، لذلك ورث سمارا خاصا في البشرة. كما ورث الارتباك والحيرة عن والدته التي ظلت من أول الرواية إلي آخرها تكرر محاولات انتحار غير ناجحة، بين الأب عازف «الدرامز» يعيش معها حياة بوهمية مليئة بحفلات الشراب والجنس الجماعي، والابن والأخ الأكبر منه يراقبان الحياة من خلف ستار في الشقة الفقيرة التي تمرح علي مداخلها الفئران الكبيرة وأكياس القمامة. الأخ الأكبر «مثلي الجنس» يهاجر إلي أمريكا حيث «الحياة الحقيقية»، ويستقر في سان فرانسيسكو جنة المثليين. يقع الأب في غرام أيفا (حواء) بعد أن يحصل علي عمل يضمن له بعض اليسر المالي. وكأن قماشا قد تمزق أو بابا قد أغلق. تفرغ نقوده لكي يعود «ولكننا لا نعود بعد أن نغادر» ولأن كل شيء يتلف في اللحظة الأخيرة، ويقع «ابن الحب» هو الآخر في غرام «فابيان» ويعيش معها أربع سنوات ويأخذها في رحلة إلي أمريكا في رحلة حب جنوني تدفعهما إلي حدود المكسيك في سيارة، يطاردهما هناك رجال العصابات، الحظ وحده هو الذي ينقذ «فابيان» من الاغتصاب، لكي يعود بها إلي باريس، حيث يعرفها إلي صحفي شبه مشهور. فتهرب مع الصحفي وتتركه بلا مال ولا حب ولا رغبة في الحياة أو العمل. يعود إلي بيت العائلة البارد «كانت المدينة بأسرها قد تحولت إلي مقبرة، وأنا أذرع طرقاتها بين زحام الموتي كشبح يبحث عن قبره. الموت والحياة كانا قد تصالحا لمرة. لقد ضاع الطريق في مسار الرحلة. وبقيت أسير الأصوات والهلاوس. أعيش علي نقود تأمين البطالة وأنام في الطرقات ومداخل العمارات. والداي لم يستطيعا أبدا فعل شيء لأجلي. ولكن في غرفة طفولتي التي عشت فيها مع أخي المثلي الذي توفي بالايدز في سان فرانسيسكو: عثرت علي المعجزة التي كنت أحتاجها: ملحمة «الأوديسا لهوميروس». التي قرأها كاملة ذات ليلة رائعة. لم أعرف مسبقا تجربة مماثلة مع كتاب. ولا لاحقا. لقد كان ذلك كأنني أهب وجهي للشمس. كل بيت شعري كأنه كتب لي. ليمتزج بروحي، ويتسرب عبر عيني وأذني. لقد كنت القراءة نفسها، صوت نسخة جديدة من «عوليس». أن موارد الإنسان لا نهائية. أنا من كنت أعيش في الشارع وعثرت دون تخطيط مسبق علي ملجأ مكون من عشرة آلاف بيت بشري. لا أحد يستطيع طردي من «الأوديسا». لقد كانت كمعبد محفوظ لأثرياء الروح. الكنيسة التي بلا كاهن تكشفت لي وحدي، ومن يومها لم أحتج إلي تعاطي أي مخدرات مشروعة أو غير مشروعة (باستثناء التبغ). وكما يبدأ العمل الخاص بمحاولة انتحار الأم، ينتهي بمحاولة أخري فاشلة للانتحار، حيث يقول لها ابنها: أين الحرب والحب: هذا سبب للفرح والسعادة. العمل جميل يقع بين الحقيقة والخيال. والكاتب الرسام الذي لم يبدأ الكتاب إلا بعد أن بلغ الأربعين يقول لا أري فارقا بين الواقع والخيال، بين الاعتراف والابداع. نحن نخترع هذا الواقع. استطاع ياسر عبد اللطيف أن ينقل في بساطة روح النص رغم اعتماد الكاتب كثيرا علي التلاعب بالكلمات، لكي يقدم لنا في النهاية عملا هاما محيرا جديرا بالقراءة. لمزيد من مقالات علاء الديب