طغت على المعرفة الإنسانية ما بين نهاية القرن التاسع عشر، ونهاية القرن العشرين موجة من إعلان (النهايات)، توالت تدريجيا لتنال من جل الأنساق والسرديات الكبرى. كان الدين، باعتباره التعبير الأمين عن (منطق الروح) القديم والمتراجع، الذى تمت هزيمته أمام (منطق العقل) الجديد والمتصاعد، هو النسق الأسبق إلى النهاية من كل الأنساق الأخرى: كالفلسفة والإيديولوجيا والحداثة والتاريخ والإنسان والمعنى. فهل موجة النهايات هذه صحيحة بالفعل، أم أن الإعلان عنها محض ادعاء يهدف إلى أغراض مضمرة، خصوصا وأن جميع دفقاتها قد خرجت من فضاء الفكر الغربي، المتمركز حول ذاته. كما أنها بدأت بطيئة ومتثاقلة، قبل أن تتسارع إيقاعاتها مع الحرب الباردة، حيث دار الصراع الإيديولوجى الكبير، والمحاولات المتبادلة للسيطرة على المصير؟.. هذا السؤال هو ما نحاول الكشف عن منطقه فى حديث اليوم، ونسعى للإجابة التفصيلية عنه فى المقالات الست التالية. كان هيجل هو أول من أعلن إحدى النهايات، عندما استنتج أن التاريخ قد انتهى مع انتصار قيم الثورة الفرنسة فى الحرية والإخاء والمساواة، تلك التى تؤسس لدولة قومية حديثة لم يعد هناك تكوينات اجتماعية أو تنظيمات سياسية أرفع شأنا منها. وكان أوجست كونت وفريدريك نيتشه قد أوحيا بفكرة (نهاية الدين) وإن لم يقولا بذلك صراحة فى الثلث الأخير للقرن التاسع عشر. كونت من خلال تصوره التحقيبى لتاريخ الوعى البشرى موزعا على المراحل الثلاث: الديني/ اللاهوتى، والميتافيزيقى/ ما وراء الطبيعى، ثم العلمى/ العقلى. أما نيتشه فمن خلال ادعائه بموت الإله، وحلول الإنسان الجديد «السوبرمان» مكانه فى مركز العالم والوجود. وفى ثلاثينيات القرن العشرين ادعت الوضعية المنطقية بنهاية الفلسفة التأملية «الميتافيزيقا»، وطالبت بدور وحيد للنشاط الفلسفي، هو العمل كخادم للعلم التجريبى، يبحث فى قضاياه الكلية، ويمده بالفروض النظرية، ويختبر نتائجه النهائية. لم تقل الوضعية صراحة بنهاية الفلسفة، ولكن ما الذى تعنيه النهاية أكثر من وضع السؤال الفلسفى حول الوجود كله، بسعته ورحابته، فى أنبوب اختبار، بضيقه وصرامته. وفى بداية الخمسينيات وضع ه. ستيوارت هيوز مصطلح (نهاية الايديولوجيا السياسية) استنادا إلى تراجع الشيوعية بنهاية عهد ستالين حيث كان تعبير الايديولوجيا هو الأكثر انطباقاً عليها، وهو ما كذبته الأحداث فى العقدين التاليين اللذين زاد خلالهما الاتحاد السوفيتى من تفوقه. ثم تكفل جاك ليوتار بإعلان نهاية الحداثة قبل ثلاثة عقود تقريبا عندما أصدر كتابه الشهير «الظرف ما بعد الحداثى: تقرير عن المعرفة» عام 1979م، وهى النهاية التى واصل الحديث عنها جاك دريدا مبررا لها بنزعته التفكيكية التى أعادت تكريس الروح الشكية فى الفلسفة الفرنسية فى مرحلة ما بعد الوجودية خصوصا وجودية سارتر. ثم جاء فرانسيس فوكوياما ليلحق بالركب معلنا وحده لنهايتين. الأولى والأشهر «نهاية التاريخ» عام 1992م، مستندا إلى زوال الاشتراكية الفعلى نهاية الثمانينيات فى الاتحاد السوفيتى، وذلك رغم اعترافه بأن نهاية التاريخ، على هذا النحو ستكون حدثاً حزينا، لأن الصراع الكبير (الإيديولوجي) حول صياغة نظام العالم، وما يستثيره من جسارة ومثالية وخيال، سيحل محله صراعات (صغيرة) حول الحسابات المادية والمشاكل التقنية، وكذلك حول كيفية إشباع الرغبات المحمومة للمستهلكين. وهو أمر يفسره فوكوياما بأن التيارات المناهضة للرأسمالية فى عالمنا المعاصر لا تمتلك خيالا دافقا، وبدائل مختلفة للمستقبل بعد هزيمة الشيوعية، وتحول اليسار الأوروبى فى الشرق عن أحلامه الكبيرة فى تغيير المجتمع جذرياً. وكذلك استسلام اليسار فى أوروبا الغربية للرأسمالية وتواضع مطالباته لها على نحو يجعله نفعياً وعملياً. ولعل هذا ما دفعه مع أحداث 11 سبتمبر إلى التبشير بافتتاح تاريخ جديد يشغله الصراع بين الرأسمالية من ناحية والإرهاب من ناحية أخرى، مكرسا لذلك الصراع الدينى/ البدائى الفقير، الذى كان الراحل صامويل هانتنجتون قد بدأ الحديث عنه قبل ذلك بنحو العقد، ويبدو أن لم يستنفذ كل إمكاناته بعد، فى تفسير عديد الظواهر من حولنا. وأما الثانية فهى «نهاية الإنسان» عام 2002م حيث يولد إنسان جديد بفعل الفتوحات الجديدة البيولوجية والبيوتكنولوجية فى القرن الحالى على أنقاض إنسان القرن العشرين والقرون التى سبقته. فإذا كان الإنسان قد تحول نحو القطع مع جوهره الموروث بفعل ثورات العلم، فإن استمرار هذه الثورات، التى لم يقل أحد بتوقفها عند حد، يجعل من استمرار الإنسان نفسه موضع شك كبير. وإذا كان من الصعب الإدعاء بنهاية دورة العلم والتكنولوجيا الحديثة الآن أو فى وقت قريب، بل أننا على أعتاب مرحلة من أخطر مراحل تقدمها فى التاريخ حيث البيوتكنولوجيا والتفهم العلمى الأكبر للمخ البشري، فإن علينا أن نتوقع نتائج غاية فى الأهمية لتلك الثورة، قد تفتح الباب أمام احتمالات هائلة للهندسة الاجتماعية. النتيجة المنطقية إذن، حسب هذا الفهم، هى ميلاد إنسان جديد لكل قرن جديد، وربما لكل عقد جديد كنتيجة لتسارع التقدم العلمي، وهكذا فى نوع من النسبية الشديدة التى تصل إلى حد العدمية. وفى الحقيقة لا يمكن فهم حديث النهايات هذا إلا بكونه انعكاسا لرؤية مادية للوجودية، تتسم بالثقة المفرطة والتفاؤل الكامل، وتعتقد فى آلية الحتمية التاريخية، وهو فهم ينبع بالأساس من تصور لنظرية المعرفة يعتقد فى قدرة العقل المطلقة ليس فقط على صعيد المعرفة بقوانين الطبيعة، بل وأيضا على صعيد التحكم فيها، ومن ثم السيطرة الشاملة على حركة الكون!. ولذا، فبدلاً من الغائية التقليدية التى ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، ما يعنى أنه مستمر مادامت المشيئة الإلهية تقضى بذلك، طرحت بدلا منها غائية جديدة جوهرها أن التاريخ يتحرك حسب مشيئة الإنسان، وإن إمكانية إنهائه تبقى فى حدود الطاقة الإنسانية، وهنا تصبح قدرة الإنسان (الغربى) على إعلان نهاية التاريخ مجرد مظهر لإعلان تفوقه النهائى ليس فقط على الإنسان (غير الغربى)، بل وعلى الطبيعة الإنسانية ذاتها بعد أن تحول إلى سوبرمان، واحتل موقع الله فى الوجود، الذى إما أنه قد مات حسب نيتشه، أو انزوى بعيدا بفعل تقدم العقل ونضوجه فى التاريخ حسب كونت، ومن ثم انتفاء الحاجة إليه تماما كما يؤكد أندرو لانج باسم فلسفة الدين الوضعية، أو تقلصه إلى مجرد (محرك أول) للكون والتاريخ ولكن من بعيد حسب الفهم الأرسطى القديم، أو حتى ذوبانه فى الطبيعة كما ذهب أصحاب الدين الطبيعى منذ سبينوزا وحتى صامويل كلارك. [email protected] [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم