أعلن عن قيام الرئيس عبدالفتاح السيسي بأول زيارة لرئيس مصري لسنغافورة في إطار جولة آسيوية بداية الشهر القادم وتأتي الزيارة لهذه الدولة التي تقع علي جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا عقب احتفالات شعبها بمرور خمسين عاماً علي استقلالها حقق خلالها إنجازات مبهرة، وقد جاءت هذه الاحتفالات يعد يومين من احتفال مصر والعالم بافتتاح قناة السويس الجديدة وبدء مشروع تطوير محور قناة السويس وميناء شرق بورسعيد العملاق، والذي ينظر إليه كفرصة لتحقيق نموذج جديد للتنمية، وهو ما يجعل للزيارة الرئاسية القادمة أهمية لما يمكن أن تفتحه من آفاق للتعاون تتيح لنا أن نبدأ من حيث انتهي الآخرون ومنهم سنغافورة. أتيحت لي فرصة زيارة سنغافورة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وذلك في إطار جولة خاصة حول العالم شملت دولا في شرق آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، وعلي الرغم من أن سنغافورة كانت من أصغر وأحدث هذه الدول وربما الأقل نمواً من معظمها، إلا أن اطلاعي علي تجربة التنمية بها كان له أكبر الأثر في نفسي، خاصة كمصري يحمل وطنه معه أينما ذهب ولا يملك إلا أن يقارن بينه وبين غيره من المجتمعات خاصة التي تمثل نموذجا ناجحا للتنمية، وكان ذلك في وقت كان المجتمع المصري يتطلع فيه لنتائج نصر أكتوبر وإعادة فتح قناة السويس وسياسات الانفتاح الاقتصادي.. حيث كان الأمل كبيرا بأن الرخاء قادم.. خلال سنوات قليلة. هذه الجزيرة التي لا تتعدي مساحتها 714 ك م2، ولا يتعدي تعدادها 6 ملايين، حصلت علي استقلالها من الاستعمار الإنجليزي عام 1963 لتنضم في اتحاد مع ماليزيا لم يمتد أكثر من عامين لتجد نفسها مطرودة منه لتقف كدولة جديدة وحيدة في محيط من الكتل الجغرافية والبشرية والصراعات الإقليمية والدولية ولا يوجد لديها قوه كافية للدفاع أو أي موارد طبيعية. كان أهم ما أثار انتباهي خلال الزيارة الأولي انني أمام مجتمع محدود الموارد والإمكانيات إلا أنه يبني واقعا جديدا وحديثا علي أطلال ما ورثه بعد الاستقلال من بنية أساسية وقيم قديمة وتقليدية، والأهم أن هذا الواقع الجديد يتم تشييده في إطار رؤية شاملة ومتكاملة وانضباط شديد يقف ورائهما قيادة حكيمة وحاسمة تقود دفة سفينة هذا المجتمع الجديد بحزم لتخرج به من المستوي المحلي أو الإقليمي إلي المستوي العالمي، رغم كل المعوقات التي قد تواجه هذا المشروع الطموح سواء التاريخية أو الجغرافية أو السكانية. ترسخت قناعتي بأهمية دراسة النموذج السنغافوري عندما أتيحت لي فرصة أخري خلال عملي في الهند بعد عقد واحد من زيارتي الأولي لها للقاء والاستماع إلي قائد ومهندس التجربة السنغافورية لي كوان يو (الذي توفي عن عمر يناهز التسعين عاما في 23 مارس الماضي)، وذلك خلال لقائه نخبة من المفكرين الهنود والدبلوماسيين الأجانب حيث تحدث الرجل وكان قد ترك منصبه كرئيس للحكومة والذي تولاه منذ استقلال الجزيرة 1965 حتي عام 1990 ليكتفي بمنصب شرفي كوزير كبير Senior داخل مجلس الوزراء، حيث أوضح التحديات التي واجهته وملامح الرؤية التي أسهم في بلورتها، والتجربة التي قام بقيادتها حتي خرجت بلاده من دائرة الدول النامية للعام الثالث إلي نادي دول العالم الأول المتقدمة، وذلك في عدة عبارات تمثل في رأي ملامح طريق لأي مجتمع أو قيادة تهدف للتقدم، حيث أكد أن التحدي الرئيسي كان هو كيف تتغلب سنغافورة علي نواحي الضعف لتصبح نقطة جاذبة للاعبين الرئيسيين في مجال المال والاستثمار والتكنولوجيا في العالم والباحثين عن فرص للاستثمار في هذا الجزء من العالم، وأن تحافظ علي مكانتها بالتطوير المستمر للبنية الأساسية أو الأداء الحكومي والشعبي لضمان أن تظل سنغافورة هي الخيار الأفضل في المنطقة، والتحدي الثاني تمثل في التعامل مع التركيبة العرقية للشعب السنغافوري، فعلي الرغم من أن الغالبية صينية(وهو منهم) وتتحدث لغة الماندرين، والآخرين من أصول ماليزية ويتحدثون لغة المالايو، أو من أصول هندية ويتحدثون لغة التاميل، إلا أنه قرر إلي جانب هذه اللغات اختيار اللغة الإنجليزية كلغة المعاملات الرسمية للبلاد ليس فقط لتوحيد الجميع علي لغة واحدة بل لمنع تقسيم انتمائهم، كما أنها اللغة الأكثر استخداماً في عالم الأعمال والاستثمار ، من ناحية أخري حرص علي تحقيق الاندماج بين الفئات المختلفة من خلال سياسات محددة ومنها نسب التوزيع في المساكن والتعليم التي تخصصها الحكومة للمواطنين من كل فئة. وللوصول بالموارد البشرية للمستوي الذي يرقي للتعامل مع التحدي الرئيسي فقد حرص الحزب الحاكم والحكومة بقيادة لي كوان يو علي إعطاء أولوية قصوي لنوعية التعليم (بتخصيص 20% من الإنفاق الحكومي )، خاصة التعليم الأساسي مع رعاية المتفوقين وإرسالهم في بعثات لأرقي الجامعات في العالم للحصول علي التخصصات التي يحتاجها المشروع الوطني، ومراعاة تطبيق القانون ومبادئه بحزم علي كل المخالفات مهما صغرت من خلال عقوبات حاسمة (الحبس والضرب بالعصا للكتابة علي الحائط)، واعتماد مبدأ الكفاءة والشفافية كمعيار رئيسي لتولي الوظائف العامة، مع مراعاة معاملة موظفي الحكومة (وعددهم غير متضخم) مالياً كأقرانهم العاملين في الشركات الخاصة والأجنبية لمنع الفساد والرشوة. لقد استطاعت القيادة في سنغافورة أن تحقق معادلة بين القيم الآسيوية والمبادئ العالمية في الحكم والإدارة والسلوكيات، فالقيم الآسيوية تقوم علي مبادئ المفكر كونفوشيوس التي نبعت من الصين وامتدت آثارها لأنحاء مختلفة من شرق وجنوب شرق آسيا وتقوم علي أن مصلحة المجموع تجب مصلحة الفرد، وأن احترام السلطة واجب مادامت تحقق الصالح العام واعتماد مبدأ الكفاءة في الوصول للمناصب العامة، وفي المقابل أصبح المواطنون السنغافوريون مؤهلين ومدربين وبعيدين عن ممارسة الفساد والرشوة بصورة تحقق التميز وفقاً للمعايير العالمية التي تسهم في جذب رأسمال المال والاستثمار الأجنبي لأي دولة. ولعل المؤشرات الصادرة عن الأممالمتحدة والبنك الدولي تعطي دلالة عما حققه المجتمع السنغافوري خلال نصف القرن الماضي حيث حقق معدلات نمو بلغت 12%، وارتفع دخل الفرد من450 دولارا أمريكيا في الستينيات حتي وصل 56000 دولار في 2014، وحققت الجزيرة المرتبة الأولي لمدة سبع سنوات متتالية كأحسن بيئة للأعمال، سواء لحماية المستثمرين أو سرعة الإجراءات أو قلة الفساد، كما أنها تأتي ضمن قائمة الدول الأقل جرائم في العالم، كذلك أدي استثمار الدولة في التعليم الي توفير القوي العاملة والمؤهلة وفقا للمعابير العالمية.لقد استطاعت سنغافورة أن تستثمر موقعها البحري المتميز في نهاية مضيق ملقا بأن جهزت ميناءها لتلبية احتياجات حركة التجارة العالمية حتي أصبح ميناء سنغافورة العربية يقوم بأكبر وأسرع عمليات نقل ملاحي عابر في العالم، كما أنه يحتل المرتبة الثانية بين أكبر موانئ الحاويات عالميا، كذلك تعد الجزيرة أكبر مصنع لمنصات التنقيب عنٍ البترول البحرية، كما تحتل المرتبة الثانية بين أكبر منتجي النفط المكرر. وأخيرا يجب أن نسجل أن ما قاله الرئيس السيسي ليذكرنا بأن القناة الجديدة هي خطوة من الف خطوة تواكب مع ماذكره رئيس حكومة سنغافورة من أن للسنغافوريين أن ينظروا للوراء بفخر لما حققوه خلال 50 عاما، إلا أنه عليهم المحافظة علي الأداء المتميز وإلا سيكون تحديد مستقبلهم في يد غيرهم. عضو المجلس المصرى للعلاقات الخارجية لمزيد من مقالات السفير محمود علام