دعوى قضائية لإلغاء المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    المطورون العرب القابضة تواصل الأداء الإيجابي وترفع حجم التسليمات والمبيعات خلال 9 أشهر    إنفانتينو يكشف تفاصيل لقاء رئيس لبنان وخطة إنشاء ملعب فى بيروت    تمزق العضلة الخلفية سبب استبعاد عبد الله السعيد من رحلة الزمالك لجنوب أفريقيا    الاتحاد السكندري يدرس إمكانية تقديم شكوى للاتحاد الدولي للسلة    مؤشرات فرز أصوات لجنة 13 مدرسة الشهيد عمرو خالد حسين فى زفتى بالغربية    العالم هذا المساء.. تفاصيل فعالية اليونسكو فى باريس حول المتحف المصرى الكبير.. ومظاهرات في محافظتي طرطوس واللاذقية بسوريا ومطالب بالإفراج عن الموقوفين.. والحكم على رئيس البرازيل السابق بولسونارو بالسجن 27 عاما    مراسلة إكسترا نيوز ل كلمة أخيرة: الوطنية للانتخابات وفرت الضمانات للناخبين    الدباغ والجزيرى على رأس قائمة الزمالك لمباراة كايزر تشيفز في كأس الكونفيدرالية الأفريقية    انتخابات مجلس النواب 2025.. بدء عملية فرز أصوات الناخبين في الغربية (صور)    غدا.. غلق المخرج أسفل كوبرى سيدى جابر بالإسكندرية للقادم من شارع المشير    ‫ ليبيا... العودة إلى نقطة الصفر    إطلاق مشروع الطريق الأخضر لعالم أكثر أمانًا بقنا بتعاون بين الإنجيلية والبيئة و"GIZ"    الصحة: ضعف المناعة أمام الفيروسات الموسمية وراء زيادة حدة الأعراض    تطوير 5 عيادات صحية ومركز كُلى وتفعيل نظام "النداء الآلي" بعيادة الهرم في الجيزة    محافظ الإسماعيلية يتفقد المقار الانتخابية بمدرستيِّ الشهيد جواد حسني الابتدائية وفاطمة الزهراء الإعدادية    رماد بركان إثيوبيا يشل حركة الطيران في الهند ويتمدّد نحو الصين    الكرة النسائية.. منتخب الشابات بالأبيض وتونس بالأحمر في بطولة شمال أفريقيا    محافظ الدقهلية يتفقد جاهزية اللجنة العامة للانتخابات في السنبلاوين    انتخابات مجلس النواب.. إقبال كثيف على لجان الغربية    إدريسا جايي: أعتذر عن صفعي زميلي في إيفرتون    «النقل» تكشف حقيقة نزع ملكيات لتنفيذ مشروع امتداد الخط الأول لمترو الأنفاق    فى حضور 2000 من الجمهور بلندن.. ليلة استثنائية لأعمال عبد الوهاب بصوت فاطمة سعيد    العريش تطلق أسبوع قصور الثقافة للشباب    أعمال محمد عبد الوهاب بقيادة علاء عبد السلام فى أوبرا الإسكندرية    خصوصية الزوجين خط أحمر.. الأزهر يحذر: الابتزاز والتشهير محرم شرعا وقانونا    ما حكم عمل عَضَّامة فى التربة ونقل رفات الموتى إليها؟ أمين الفتوى يجيب    مدبولي يلتقي نائب رئيس "المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني".. صور    انعقاد جولة مشاورات سياسية بين مصر واليونان    استمرار حبس رمضان صبحي حتى 30 ديسمبر للنطق بالحكم    يلا شوت بث مباشر.. الهلال × الشرطة العراقي على تويتر بث مباشر مجانًا دون تشفير أو اشتراك | دوري أبطال آسيا 2025-2026    منتخب الكويت يهزم موريتانيا ويتأهل لمجموعة مصر في كأس العرب 2025    تامر هجرس يكشف تفاصيل دوره في فيلم "عائلة دياب ع الباب" مع محمد سعد    الصفدي: الاحتلال سجل 500 خرق لاتفاق وقف النار في غزة.. ولن ننشر قوات بالقطاع    نائب رئيس حزب المؤتمر: وعي الشعب أسقط حملات الإخوان لتشويه الانتخابات    انتخابات مجلس النواب 2025.. انتعاش حركة التصويت قبل بدء استراحة القضاة بلجان القصر العيني ووسط البلد    وكيل توفيق محمد يفجر مفاجأة بشأن انتقاله للأهلي في يناير    الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق دبلومة صحافة الذكاء الاصطناعي    تأجيل محاكمة الصغير المتهم بإنهاء حياة صديقه بالمنشار في الإسماعيلية    منح جائزة صلاح القصب للتونسى فاضل الجعايبى فى أيام قرطاج المسرحية    وزير التعليم الإيطالى: أشكر مصر على الاهتمام بتعليم الإيطالية بالثانوية والإعدادية    الداخلية تكشف تفاصيل تعطيل شخص حركة المرور    ضبط 15 طن دقيق في حملات تموينية خلال 24 ساعة    ضبط 4 أشخاص يستقطبون الرجال عبر تطبيق هاتفي لممارسة الأعمال المنافية للآداب بالإسكندرية    رئيس الوزراء والوزير الأول للجزائر يترأسان غدا اجتماع اللجنة العليا المشتركة    وزير التعليم: أتوجه بالشكر للرئيس السيسى تقديرا على اهتمامه البالغ بالتعليم    مكتب الإعلام الحكومي يوثق بالأرقام: مؤسسة غزة تورطت في استدراج المُجوّعين إلى مصائد موت    إقبال كثيف على لجان شبين القناطر في اليوم الثاني لانتخابات النواب    الصين: أجواء المكالمة الهاتفية بين شي وترامب كانت "إيجابية وودية وبناءة"    وزير الصحة: مصر وتركيا شريكان استراتيجيان في بناء أمن صحي إقليمي قائم على التصنيع والتكامل    بث مباشر| مؤتمر صحفي ل«الوطنية للانتخابات» لمتابعة انتخابات النواب 2025    محاكمة فضل شاكر أمام المحكمة العسكرية اليوم    الافتاء توضح حكم الامتناع عن المشاركة في الانتخابات    باسل رحمي: نعمل على مساعدة المشروعات المتوسطة والصغيرة الصناعية على زيادة الإنتاجية والتصدير    الزراعة تطلق حملة لمواجهة مقاومة المضادات الحيوية في الثروة الحيوانية    «الصحة»: تقديم 21.9 ألف خدمة في طب نفس المسنين خلال 2025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 25-11-2025 في محافظة قنا    دعاء وبركة | أدعية ما قبل النوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة سنغافورة ..الحلم الممكن
نشر في التحرير يوم 10 - 07 - 2014

إنها معجزة حقيقية أخرى فى النهوض والتطور السريع، جزيرة صغيرة بلا موارد أو إمكانات أو ثروات، بل أضف إلى ذلك معاناتها، كونها كدولة حديثة الاستقلال فى الستينيات تعانى النزاعات الطائفية والبطالة، وتدفع ثمن كونها مطمعا من الجيران، خلال عقود ناضلت على يد بانى نهضتها «لى كوان يو» من أجل أن تصبح واحدة من أهم الاقتصاديات فى العالم وقد نجحت بالتخطيط السليم والإدارة الرشيدة، حيث أصبحت الآن الدولة الأكثر سيطرة على الفساد والأعلى من حيث امتلاك احتياطيات النقد الأجنبى ودخول الأفراد والبنية التحتية والمواصلات الأكثر تطورا وحداثة.. إنها قصة نجاح كبرى تحتاج إلى كثير من النظر والتأمل والفهم.. إنها قصة سنغافورة «المعجزة»
من جزيرة صغيرة بلا موارد وإمكانات.. إلى أحد أهم الاقتصاديات فى العالم
1- الدولة «المدينة ».. اسم على مسمّى
الدولة «المدينة»؛ هذا الاسم الذى أطلق عليها أخذًا فى الاعتبار المساحة الصغيرة التى تشغلها تلك الجزيرة الصغيرة على الخريطة، يفصلها عن ماليزيا مضيق جوهور، وعن جزر رياو الإندونيسية مضيق سنغافورة. سكانها يصل تعدادهم تقريبا إلى خمسة ملايين، وهم خليط من أعراق وأجناس مختلفة، من الصينيين والملايويين والهنود وآسيويين بالإضافة إلى الأجانب الوافدين للعمل أو للدراسة، وتجمع الدولة الثالثة فى العالم من ناحية الكثافة السكانية خليطا من الديانات المختلفة، البوذية والمسيحية والإسلام والطاوية والهندوسية بالإضافة إلى اللا دينيين الذين يمثلون النسبة الثالثة بعد نسبة البوذيين والمسيحيين. ويمثل الصينيون أكثر من 75% من السكان. أما الماليزيون فيمثلون نحو 15%، والهنود 7%. أما الباقون فينحدرون أساسًا من أصل أوروبى أسيوى. وهناك أربع لغات رسمية هى: الإنجليزية، والصينية (الماندرين) والماليزية، والتاميلية. وتعتبر اللغة الماليزية، اللغة القومية فى البلاد، أما اللغة الإنجليزية فهى اللغة الرسمية للمكاتبات الحكومية واللغة الرئيسية فى المدارس والكليات.
2- أيام كانت.. مستعمرة بريطانية
فى يناير 1819 جاء السير توماس ستامفورد رافلز أحد مسؤولى شركة الهند الشرقية إلى الجزيرة الرئيسية لسنغافورة، وقد أدرك أهميتها كمركز تجارى استراتيجى لجنوب شرق آسيا حيث وقَّع معاهدة مع السلطان حسين شاه جوهر نيابة عن شركة الهند الشرقية البريطانية فى فبراير 1819 لتطوير الجزء الجنوبى من سنغافورة كمستوطنة ومركز تجارى بريطانى. كانت الأراضى السنغافورية حتى عام 1824 لا تزال تحت سيطرة سلطان الملايو. وأصبحت مستعمرة بريطانية فى 2 أغسطس 1824. وخلال الحرب العالمية الثانية غزا جيش اليابان الإمبراطورى مالايا، وبلغت ذروة المعارك فى سنغافورة حيث هُزم البريطانيون فى أيام معدودة، واستسلم الإنجليز أمام الجنرال اليابانى تومويوكى ياماشيتا فى عام 1942 حيث وصف رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل الاستسلام بأنه «أسوأ كارثة وأكبر استسلام فى تاريخ بريطانيا»، ومع تغير دفة الحرب استعاد البريطانيون الجزيرة فى سبتمبر 1945.
4- جزيرة بلا موارد تتصارع طائفيًّا
لقد تولى لى كوان يو، حكم سنغافورة كجزيرة صغيرة بلا موارد طبيعية على الإطلاق، حيث يقول فى مذكراته «سنغافورة لم يكن لديها موارد طبيعية كى تقوم باستكشافها»، فهى مجرد جزيرة تشغل أصغر مساحة فى جنوب شرق آسيا، تعج بمشكلات البطالة، الفقر، الفساد، أزمة السكن، الركود اقتصادى، وفى عام 1965 كانت واحدة من أكبر الأزمات التى واجهت سنغافورة، إذ قام البريطانيون بغلق قواعدهم، وعلى أثر ذلك فقدت سنغافورة كثيرا من الوظائف، ويروى المؤرخون أن استقلال سنغافورة عن ماليزيا أعقبه معدل عال من البطالة وغياب للبنية الأساسية مثل الصرف الصحى، ونقص فى إمدادات المياه الصالحة للشرب، وصراع عرقى، إنها الظروف التى واجهتها دول من العالم الثالث وما زالت تواجهها.
وفى ما يتعلق بتهديدات الأمن القومى السنغافورى وقتها لتلك الدولة حديثة الاستقلال، فيمكن القول إن الجزيرة الصغيرة كانت واقعة بين دولتين من الأعداء، ماليزيا، وإندونيسيا. لقد وصفها «لى كوان يو» فى مذكراته «الجزيرة الصغيرة وسط بحر مالاوى كبير»، فطموحات الدولتين تجاه سنغافورة بدت واضحة فى سياسات ماليزيا وإندونيسيا، حيث بدأ الرئيس الإندونيسى سوكارنو، سياسة المواجهة بإرسال مشاة البحرية الماليزية لقصف أبرز البنوك فى سنغافورة، أما الحكومة الماليزية التى كانت تتعامل مع الجزيرة الصغيرة بمنطق استعراض العضلات، ورفض سحب جنودها كانت تتعامل مع سنغافورة بمنطق فرض الأخ الأكبر.
3- 1955.. أول انتخابات بعد الاستقلال
بعد الحرب، سمحت الحكومة البريطانية لسنغافورة بإجراء أول انتخابات عامة عام 1955، التى فاز بها المرشح المؤيد للاستقلال، ديفيد مارشال، زعيم حزب جبهة العمل، الذى أصبح رئيس وزراء، وقاد مارشال وفدا إلى لندن للمطالبة بالحكم الذاتى الكامل، لكن بريطانيا رفضت طلبه فاستقال عند العودة، وحل محله ليم يو هوك، الذى عمل على سياسة إقناع البريطانيين. وكانت سنغافورة قد منحت الحكم الذاتى الداخلى الكامل للحكومة مع رئيس وزرائها ومجلس الوزراء للإشراف على جميع قضايا الحكومة باستثناء الدفاع والشؤون الخارجية. جرت الانتخابات فى 30 مايو 1959 مع حزب العمل الشعبى الذى حقق فوزا ساحقا. أصبحت سنغافورة فى نهاية المطاف دولة تتمتع بالحكم الذاتى داخل الكومنولث فى يوم 3 يونيو 1959، وأدى اليمين «لى كوان يو» لتولى منصب رئيس الوزراء الأول وهو الذى سيلعب الدور الأهم فى ما صارت إليه سنغافورة اليوم، للدرجة التى دفعت البعض إلى أن يطلق عليه بانِى سنغافورة الحديثة أو المعلم. وقد أعلنت سنغافورة الاستقلال عن بريطانيا فى 1963 قبل الانضمام إلى الاتحاد الفيدرالى الماليزى ثم خرجت من الاتحاد بعد عامين، بعد صراع بين حكومة زعماء حزب العمل الشعبى والحكومة الفيدرالية فى كوالالمبور.
5- «المُعلم» الذى حوّل التراب إلى ذهب
لم يكن أمام لى كوان يو احتمالا آخر سوى النجاح، بلاده كانت على شفا السقوط، والشيوعيون يتربصون به وينتظرون فشله، لقد بدأ لى كوان يو خطة اقتصادية طموحة، عمليا لم يكن أمامه موارد يمكن استغلالها كما أشرنا فى السابق، كان عليه التفكير خارج الصندوق وتوسيع الفرص قدر الإمكان أمام بلاده، التى يمكن الاستفاددة منها، هنا كانت المعجزة تحويل اللا شىء إلى شىء عظيم، حيث يقول الرئيس «المعلم» عن وضع سنغافورة فى تلك الفترة: «فقد كان أمامنا كثير من العمل، وقليل من الموارد، وقليل من الوقت، لماذا قليل من الوقت؟ لأننى كنت أتوقع سنة واحدة على الأكثر من شهر العسل، قبل أن يعيد الشيوعيون صفوفهم ويعودون للهجوم علينا
6- الاستثمار فى البشر
أما الملمح الآخر فكان الاهتمام بالموارد البشرية، وهو الاهتمام الذى أولته الحكومة فى الاستثمار فى شعبها، وهنا كان التوسع فى المدارس التقنية، بالإضافة إلى التدريب المدفوع المقابل فى الخارج للعمال غير المدربين كى يكونوا مؤهلين للوظائف ذات الأجور العالية فى مجال الإلكترونيات، وإصلاح السفن والبتروكيماويات، وفى سبيل هذا وحدت الحكومة ما تبقى من النقابات المستقلة ضمن ما أطلق عليه الاتحاد الوطنى للتجارة، الذى سيطرت عليه الحكومة، وعمدت من خلاله إلى خلق عمالة كثيفة وتوفير التدريب وإنشاء علاقة قوية بالشركات، وكانت النتيجة استفادة العمال من الحوافز الحكومية التى توفر لهم التدريب والتأهيل والدخل، وفى المقابل كانت حماية المستثمرين وتجنيبهم انتفاضات العمال ضدهم. وهنا لم تكن تخشى الحكومة السنغافورية تدفق الأموال من الخارج، ولكنها اهتمت أكثر بتقليل هجرة مواطنيها، وبذلت جهودا كبيرة لإقناع العمال بالعمل فى المجتمع السنغافورى، وكان الأساس هنا إدراك قادة سنغافورة أن الأشخاص المدربين والأكثر كفاءة هم القادرون على تحسين كفاءة الأداء وخلق معدل نمو.
7- إنهاء الاحتقان.. وتأسيس هوية جديدة
المسعى الأول أمام كوان يو التفكير فى كيفية إنهاء الاستقطاب والاحتقان الطائفى داخل بلاده، وفى البداية كنا أشرنا إلى التنوع العرقى والدينى واللغوى الواسع داخل سنغافورة، لقد ورث «يو» سنغافورة، بينما كان السكان الصينيون والمالاويون منقسمين عرقيا ولغويا، كانوا عادة ما يتصارعون فى الشوارع، ناهيك بالاحتقان بين أبناء الطائفة الواحدة، مثل التوتر مثلا بين الصينيين المتعلمين تعليما غربيا، وهؤلاء الذين تلقوا تعليما شيوعيا «المدارس المتوسطة»، تلك السمات التى يمكن أن تطلق عليها سمات الدولة الفاشلة، مضافا إليه غضب شيوعى وتربص ضد السلطة فى البلاد.
مثل هذا التنوع فى دول من العالم الثالث كان وما زال بمثابة برميل من البارود ينذر بالاقتتال الأهلى وربما تقسيم المقسم، ولكن لى كوان يو كان له رأى، ومن ثمّ استراتيجية أخرى، ولهذا كانت أولى خطواته هى تأسيس هوية وطنية جديدة، تقيم دولة المواطنة، التحدى كان إقناع السنغافوريين أنهم ينتمون إلى بلد مستقل، وأن أساس الهوية هو انتماؤهم إلى هذا البلد، فبعد سنوات طويلة من العمل كفيدرالية تابعة للدولة الماليزية، كان على حكومة حزب العمال إقناع السكان أنهم سنغافوريون، وأنهم أفراد ينتمون إلى تلك الدولة لا إلى صينيتهم أو مالاويتهم أو بوذيتهم.
خطوات فرض السيادة والاستقلال فى البلاد كانت صعبة أيضا، ولكنها كانت ناجحة، فبينما طلبت حكومة حزب العمال المساعدات الدولية ولم تتم الاستجابة لها، لم ييأس قادة سنغافورة، عرفوا أن على بلادهم أن تعمل وحدها.. وقد واجهت لى كوان يو كثيرا من المشكلات التى كان يصعب التعامل معها فى وقت واحد دون مساعدات خارجية، لكن كان التحدى الذى نجح فيه هو إدراك كيف يمكن استخدام الموارد وفقا للأولويات. فسنغافورة لم يكن أمامها خيار آخر سوى التحرك خارج إطار نظرية التبعية الاقتصادية، التبعية للشرق متمثل فى السوفييت أو الغرب متمثل فى الولايات المتحدة. وهو ما يفخر به القادة السنغافوريون الآن، حينما يقارنون وضع بلدهم ببلدان أخرى مجاورة، كانت أكثر تقدما بكثير من بلدهم فى الستينيات.
8- أن تطرق الحديد وهو ساخن
«كنا مصممين أن نطرق الحديد وهو ساخن، وأن نستفيد من شعبيتنا بعد الانتخابات، فقمنا بحملات واسعة لتنظيف الشوارع، واقتلاع الأماكن القذرة. وكنا نحض الجميع حتى الوزراء على أن يعملوا بأيديهم، حتى ولو اتسخت ملابسهم، وذلك من أجل خدمة الشعب».
«بنينا عشرات المراكز الاجتماعية، أى مراكز كبيرة فى المدن وأخرى صغيرة فى المناطق الريفية، وأماكن للتعليم وإعادة إحياء المواهب، كنا نريد أن نقدم للناس أشياء إيجابية نقوم بها ضمن إطار النظام العام والقانون» هذا ما أشار إليه لى كوان يو فى مذكراته ويضيف: «التقشف فى البداية بتخفيض رواتب الوزراء من 2600 دولار إلى ألفى دولار فى الشهر، كى يعطوا مثلا للآخرين، وكذلك تخفيض علاوات الموظفين». وعن نتاج عملية التقشف تلك يقول: «كانت الوفورات جيدة، ولكنها ليست قاسية، إذ إنها لم تشمل إلا ستة آلاف موظف من بين موظفى الحكومة البالغ عددهم 14 ألف موظف، ومن ثم تجميد التعيينات»، لاحظ أن سنغافورة اليوم تحظى بأعلى قيمة للرواتب فى العالم، فى ما يتعلق بالوزراء ورجال الحكومة، وهى ما يعرفه قادة سنغافورة بكلفة القيادة الصحيحة، فكما أدلى أحدهم بتصريح تليفزيونى يؤمنون أن «الوظيفة ليست رهبنة، إذا أردت أن تجلب أشخاصا أكفاء للعمل معك فى الحكومة فيجب أن تدفع لهم بسعر السوق، الرواتب تتسم بالشافية، لا يوجد مبرر لأن يعمل شخص فى الحكومة مقابل راتب بائس»، لكن على الجانب الآخر فإن رواتب الوزراء وارتباطها بالقطاع الخاص مرتبطة بالحفاظ على النزاهة، ومكافحة الفساد وأن تكون الترقيات من نصيب الأفضل، فاتورة الوزراء الكبار وكبار موظفى الحكومة 100 مليون دولار ضمن اقتصاد يبلغ 300 مليار دولار وهو مبلغ معقول.
9- فريدمان: ماذا ستفعلون الآن بعد أن فقدتم السوق الماليزية؟
عضو المجلس الاقتصادى: لا نعرف ما الذى سنفعله، لكنى فقط أود أن أؤكد أنك إن عدت بعد عشر سنوات ستدرك كيف أننا قد نجحنا.
فريدمان متعجبًا: كيف يمكن أن تصدر إجابة مثل تلك من اقتصادى؟!
عضو المجلس الاقتصادى: آسف لكنها الحقيقة، ليس لدينا حلى سحرى، ماذا سوف أو ماذا يجب أن نفعل.. فقط لدينا الإصرار والإرادة.. لن ننجو فقط لكننا سنزدهر.
فريدمان: حسنا، حظ موفق.
ربما لو عاد فريدمان إلى سنغافورة بعد عشر سنوات، لأدرك أنه كان يجب أن يكون أقل شكا. فدون جيران أو مساحات نائية شاسعة، كان على سنغافورة النظر بشكل أوسع عن فرص، وجذب المصنعين إليها، للإنتاج فى سنغافورة والتصدير للدول المتقدمة. لى كوان يو وزملاؤه كانوا شديدى الانبهار بالتجربة الإسرائيلية، وكيف استطاعت إسرائيل أن تتجاوز المقاطعة العربية من الدول المحيطة بها، بتطوير التجارة مع أورويا وأمريكا، حيث قفزت أسرع من جيرانها العرب.
10 -شفافية.. وأفكار خارج «الصندوق»
لقد سعى أيضا لى كوان يو إلى مكاشفة شعبه بالوضع القائم وبحقيقته كى يضع الجميع أمام مسؤوليته، قائلا فى إحدى خطبه «ليست الأهداف قط أن نحث أذهانكم، بل لنحيطكم علما بالمشكلات الحادة التى تواجه أى حكومة منتخبة شعبيا فى وضع ثورى.. وعندما تعرفون هذه المشكلات ستكونون أكثر قدرة على مساعدتنا فى إيجاد الحلول لها، يجعل الإدارة أكثر حساسية واستجابة لحاجات الناس وأمزجتهم».
لقد سعى «يو» إلى إنشاء جامعة كبرى ومركز للدراسات السياسية لتعليم وتأهيل كبار الموظفين المدنيين وتوعيتهم بالتهديدات وبمشكلات سنغافورة الاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم من العثرات فى الشهور الستة الأولى فى الحكم، استطاع وضع أسس عدة سياسات حكومية مهمة، بما فى ذلك مشروع بناء لتطوير سنغافورة وإعمارها وفرض أفكار اقتصادية متطورة مثل إعادة تخطيط ميناء سنغافورة، وإنشاء محكمة اقتصادية، وبرامج لتخفيض نسبة الزيادة السكانية، وتعزيز القانون فى مواجهة الفساد لتوفير عوائد إضافية، وتشكيل وكالة جديدة هى «مكتب التحقيقات فى ممارسات الفساد»، بالإضافة إلى تأسيس «هيئة الإسكان والتنمية»، التى كانت بداية برنامج مكثف للإسكان الشعبى، أفكار قد تبدو لك معتادة أو تقليدية الآن، لكنها كانت خارج الصندوق تماما إذا تحدثنا عن الستينيات من القرن الماضى.
11- سنغافورة اليوم
ليس المبهر فى سنغافورة اليوم ما قد تشاهده على إحدى القنوات المهتمة بالسياحة من شبكة مترو يعمل إلكترونيا دون سائق، أو شبكة من البنية التحتية هى الأفضل فى العالم فقط، لكنك تتحدث أيضا عن أن تلك (الدولة-المدينة) صارت من أهم الاقتصاديات فى العالم، فنحن نتحدث عن احتياطى من النقد الأجنبى بلغ خلال السنوات الماضية 270 مليار دولار، بينما بلغ إجمالى الناتج المحلى فيها فى عام 2013 نحو 297.9 مليار دولار، ونصيب الفرد فيها من الدخل القومى يبلغ 54.040 دولارا، لقد نجحت سنغافورة فى أن تصنع تطورا مذهلا بعد استقلالها من بلد محدودة الدخل إلى بلد عالية الدخل بمتوسط معدل نمو بلغ 7.9%، وكان المتوسط فى ال25 عاما الأولى بعد الاستقلال نحو 9.2%. لقد بدأت البلاد عمليات التصنيع فى عام 1960، وبنهاية هذا العقد صارت عملية التصنيع هى القطاع الرائد فى الاقتصاد السنغافورى، وفى عام 1970 وصلت سنغافورة إلى حالة «العمالة الكاملة»، اليوم تملك سنغافورة وفق البنك الدولى قطاعا صناعيا وخدميا قويا يمثلان جناحين أساسيين للاقتصاد السنغافورى، بالإضافة إلى مجال متسع من الأعمال ذات قيمة مضافة حقيقية.
وعلى الرغم من أن النظام فى سنغافورة يمكن وصفه بالنظام الهجين (الذى يجمع بين صفات السلطوية والديمقراطية، حيث حزب واحد مهيمن على السلطة) لكن على الجانب الآخر فقد بلغت قدرة الحكومة فى سنغافورة فى السيطرة على الفساد فى عام 2010 وفقا لبيانات الشفافية الدولية 99%، بينما بلغت نسبة التعليم فيها فى 2009 94.7% وتحظى الآن بالترتيب رقم 5 فى مؤشرات المنظمة من حيث الشفافية.
لى كوان يو
■ هو أول رئيس وزراء لسنغافورة بقى فى منصبه مدة 31 عامًا
■ أطلق عليه لقب بانى سنغافورة الحديثة
■ 1923 ولد فى سنغافورة
■ 1936: 1942 درس فى معهد رافيلز
■ 1946: 1950 التحق بجامعة كامبريدج بلندن
■ 1950: 1959 مارس المحاماة وعمل مستشارًا قانونيًّا لعدد من النقابات
■ 1954 أسس حزب العمل الشعبى
■ 1955 انتخب عضوًا فى الجمعية التشريعية
■ 1959 فاز الحزب فى الانتخابات وعين لى كوان رئيسًا للوزراء وعمره 35 عامًا
■ 1990 ترك لى كوان منصب رئيس الوزراء ومنصب أمين الحزب ثم عين مستشارًا فى الحكومة
المصادر:
■ قصة سنغافورة، مذكرات لى كوان يو، ترجمة د.هشام الدجانى
■ Model for Development:–A Case Study of Singapore's Economic Growth
■ Taymaz Rastin
■ بيانات البنك الدولى ومنظمة الشفافية الدولية
ملايين.. عدد سكانها وهم من أعراق وأجناس مختلفة
لقد بدأ يو بإنشاء مجلس التنمية الاقتصادية كى يضع خططا استراتيجية، ولتجنب التضخم ومخاطر تخفيض قيمة العملة كانت حكومة سنغافورة شديدة الحرص على ترتيب أولوياتها الاقتصادية المرحلية، فى سبيل ذلك كان الحرص على الإبقاء على الاحتياطى النقدى، حتى حينما كان الاقتصاد فى احتياج شديد إلى توسيع الإنفاق العام، هذا النظام المحدد كان يتم الحفاظ عليه فى أوقات السراء والضراء، وهو ما يمكن إدراكه حين انهارت اقتصاديات جيرانها تحت تأثير كميات هائلة من الديون قصيرة الأجل، بعد أن ضربت المنطقة الآسيوية هزة اقتصادية فى عام 1997، وهى أزمة بدت فيها سنغافورة كجزيرة ثابتة وسط الاضطرابات.
، سعت سنغافورة إلى تعديل قوانينها لضمان الحفاظ على الممتلكات الأجنبية، وأظهرت رغبة فى القضاء على الحواجز أمام التجارة العالمية مثل الفساد.
مركز مالى وتجارى كبير
لقد وضع «يو» نصب عينيه هدفا، وهو جعل سنغافورة مركزا ماليا وتجاريا كبيرا، وبالرغم من أن الشائع اقتصاديا فى ذلك الوقت أن أى دولة تحتاج إلى مساحات شاسعة نائية كى تنجح فى تأسيس عملية صناعية كبرى، إن أرادت أن تكون دولة صناعية، لكن عمليا مساحة سنغافورة كانت تمثل (لا شىء)، ولم تكن تسمح بذلك، وهو ما أثار أذهان اقتصاديين غربيين، وما أثار أذهان هؤلاء أكثر وأكثر تساؤل متعلق بما أعلنه يو، «هل من الممكن أن تتحول سنغافورة إلى مركز مالى وتجارى بعد أن فقدت السوق الماليزية بعد الاستقلال؟».
وهنا فقد ذهب مثلا أستاذ الاقتصاد ميلتون فريدمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة شيكاغو، إلى سنغافورة كى يتحقق من الأمر فى ذلك الوقت.. وجرى حوار بينه وبين أحد أعضاء مجلس التنمية الاقتصادى السنغافورى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.