سنغافورة جزيرة صغيرة، بلا موارد طبيعية علي الاطلاق وهي البلد الاصغر مساحة في جنوب شرق آسيا،. لي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة استلم السلطة والبلد تغط في عدد من المشاكل أهمها البطالة، أزمة السكن، الفساد الاداري والركود الاقتصادي، بالاضافة إلي ان شعب سنغافورة هو مجموعة غير متجانسة تتفرق اصولها بين الصين والهند والجزر الملاوية وغيرها. اليوم وبعد 40 عاما من الاستقلال هذه هي سنغافورة خامس أغني دولة في العالم من حيث احتياطي العملة الصعبة الذي يبلغ اكثر من 170 مليار دولارا، واكثر البلدان استقرارا سياسيا في آسيا طبقا للكتاب السنوي للتنافسية العالمية، واحد من أعلي معدلات المنتج المحلي الإجمالي للفرد 'الناتج المحلي الإجمالي' في العالم، في المطارات والموانئ وشبكات الطرق هي من بين الأفضل في العالم، فضلا عن السياسات الحكومية التي تعزز التنمية الاقتصادية، والعوامل الأساسية في الأداء الاقتصادي القوي لسنغافورة تاريخيا، وتنفق الحكومة 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد علي القوات المسلحة واحد لكل اربعة دولارات، يتم شراء المنازل في سنغافورة عن طريق ما يسمي بالCentral Provident Fund أو الCPF وهو نظام متبع في تحويل جزء من راتب الموظف الي هذا الحساب الشخصي حيث يقوم البنك بقطع مبلغ محدد شهريا يكون بمثابة قسط شهري من حساب المشتري ويكون هذا الاقتطاع الي اجل قد يصل الي 30 عاما وفي نهاية المطاف يكون الموظف بعد وصوله إلي سن التقاعد قد اكمل ما عليه من دين لشراء منزل له ولأسرته. كانت من أهم القرارات التي اتخذها الفريق الاقتصادي الاول للبلاد عام 65 ومع انعدام الموارد الطبيعية، هو عدم الاعتماد علي اسواق الجيران و قرروا ان تحويل الاقتصاد الي عالمي وبالتالي ألغوا جميع الرسوم علي الوارادت لتدفق التجارة بشكل حر مما يمكن من استيراد المواد الخام بحرية وبما يمكننا من التصدير بحرية وبذلك تحولت سنغافورة الي اول اقتصاد عالمي. ويبقي الاهم من ذكر كل ماسبق، أن اهم القرارات التي أوصلت جزيرة سنغافورة الي كل هذا الاستقرار والتقدم والرخاء في كل المجالات كانت اقتصادية اولا وليست سياسية بل علي العكس فقد بدأ النهوض عندما انفصلت عن ماليزيا التي كانت اتحدت معها لسنتين. ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام 1954، وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتي عام 1990، بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار أزمة سياسية كبري مع الولاياتالمتحدة لأن مراهقا أمريكيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو 'الديكتاتور الرشيد'. كان من المذهل إقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود.غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الي المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بني المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الي الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدي الجارة الإندونيسية بالتسرب الي بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الي سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدي جارته بورما. ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من آداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل اي شيء حريصا علي الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ أمريكا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخري. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضي عارمة، فكان علي سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوي الانضمام إلي اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان المالايو المسلمين علي احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام علي الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والمالاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد المالايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة. ويقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: 'بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا علي أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلي حظيرة المالايو'. وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها علي حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة علي الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلي التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة. بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: 'لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدي إلي نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء علي البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا علي جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا علي بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية علي أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول علي الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين'. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: 'اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم'. وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود الي البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلي حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية علي مساحة 9 آلاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبري باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70% من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت الي واحدة من أهم المراكز المالية. ونتيجة لهذا الاستثمار والتجارة الحرة، تفوقت سنغافورة علي ماليزيا من حيث دخل الفرد، فحتي عام 2010 كان دخل الفرد السنغافوري 31 ألف دولار سنويا، مقابل 12 ألف دولار فقط للماليزي!. كل هذا تم إنجازه في خلال 45 عاما! ما السر في ذلك؟ السر.. في الإرادة والعزيمة وحسن التخطيط للمستقبل!. كلمة أخيرة أود أن أقولها.. حين نتطرق الحديث إلي سنغافورة، وننبهر بما حققتها من طفرة نوعية في التنمية والنهضة خلال 48 عاما فقط، هذا لا يعني أن العقلية في سنغافورة تختلف كليا عن عقليات البشر العاديين!.. لا! تذكروا كيف كانت في الستينيات.. كيف كانت شوارعها قذرة، ومبانيها عشوائية، وكيف أن الصحف البريطانية تتشاءم من حالة سنغافورة بعد انفصالها عن ماليزيا.. وكيف أن جمال عبد الناصر لم يتجاوب مع طلب 'لي كوان يو' مساعدة مصر لتنمية بلده!. هل كان أحد يتوقع أن تنهض سنغافورة بهذه الطريقة؟ حتي أن 'لي كوان يو' نفسه لم يكن يتصور أن بلده ستحقق طفرة نوعية خلال هذه المدة الزمنية القصيرة.. ولكنها الإرادة، والعزيمة، والتفكير السليم، والتخطيط الدقيق، وبعد النظر، وقراءة متأنية للمستقبل القريب والبعيد!. وحتي نقتدي بسنغافورة، علينا أولا أن لا نبك علي أطلال الماضي، ونتوقف كليا عن سرد سراب المجد الزائف، ونقرأ ونتفكر ونمعن النظر لأماكن ضعفنا وتخلفنا، دون أن نلعن المستعمر الذي غادرنا قبل نصف قرن ونلق مسئولية تخلفنا علي كاهله.. وفوق كل هذا وذاك أن نشرع فورا في انتهاج أسرار تطور سنغافورة الأربعة، المتمثلة في الوحدة الوطنية، وسن قانون للبلاد يتساوي أمامه الجميع، والقضاء علي الفساد بكل أشكاله من المحسوبية والواسطة والرشوة وسياسة المحاباة، وأخيرا فتح الاستثمار والتسهيلات التجارية للمواطنين!. وتذكروا أن بيننا وبين سنغافورة.. مسافة تفكير وتخطيط فقط.