اعتمد السيد رئيس الجمهورية الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2015/2016. الموازنة العامة للدولة توضح توقعات الحكومة لإيراداتها ومصروفاتها خلال السنة المالية المقبلة. طبعا كلنا يعرف أن مصر تعانى منذ عقود من عجز فى الموازنة العامة. إيرادات الحكومة لا تكفى لتغطية نفقاتها رغم القصور فى حجم ما تنفقه على خدمات الصحة والتعليم والمرافق والإسكان الشعبى مقارنة باحتياجات المواطنين، ورغم انسحابها منذ سنوات طويلة من مجال إقامة المشروعات الجديدة التى تفتح أبواب الرزق وترفع معدلات النمو. الموازنة العامة تعانى عجزا يؤدى إلى استدانة الدولة من الداخل وأحيانا من الخارج لتتمكن من تغطية إنفاقها الذى هو أصلا أبعد ما يكون عن متطلبات التنمية وطموحات الشعب المصرى فى حياة كريمة. التصريحات الرسمية خرجت تؤكد أن اعتماد أرقام الموازنة الجديدة لم يتم إلا بعد إجراء تعديلات تكفل تخفيض العجز. المقارنة بين المشروع السابق تقديمه من وزارة المالية منذ أسبوعين وبين ماتم اعتماده توضح أن التعديلات قد أدت إلى تخفيض رقم العجز من 281 مليار جنيه إلى 251 مليار جنيه، وأن نسبة العجز إلى الناتج المحلى الإجمالى أصبحت تقتصر على 8.9% بدلا من 9.9%. الإصرار على إجراء تخفيض ملموس فى عجز الموازنة العامة يبدو مفهوما، ليس فقط لتخفيض الحاجة إلى الاستدانة وتخفيف عبء فوائد الدين العام التى صارت تمثل أكبر بند من بنود المصروفات فى الموازنة العامة، ولكن أيضا لأن صندوق النقد الدولى ومؤسسات التصنيف الائتمانى خرجت بتصريحات خلال الفترة الماضية تنتقد فيها تباطؤ إجراءات الإصلاح المالى فى مصر. التصريحات انتقدت تراجع الحكومة عن تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية و إلغاء ضريبة ال 5% الإضافية على المشروعات التى تزيد أرباحها السنوية عن مليون جنيه. التصريحات أشارت إلى أن فقدان تلك الموارد المهمة أدى إلى استمرار عجز الموازنة العامة عند مستوى يقترب من 10%. صحيح أن الرأى العام فى مصر سبق أن اثار نفس الاعتراضات ولا من مجيب، إلا أنه عندما تأتى الانتقادات من مؤسسات التمويل الدولية فإن الحكومة، التى تراهن بكل ما تملك على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية والتمويل الخارجي، لا بد وأن تسارع إلى الاستجابة. المقارنة بين الموازنة المعتمدة والمشروع السابق إعلانه منذ أسبوعين توضح تخفيض العجز بنحو ثلاثين مليار جنيه. طبعا كنا نتصور أن هذا التخفيض سيأتى نتيجة تراجع الحكومة عن قراراتها السابقة التى انتقدناها فى الداخل وانتقدتها مؤسسات التمويل الدولية فى الخارج. كنا نتوقع أن تعتمد الحكومة فى هذا التخفيض على تحميل الأغنياء تكلفة الخروج من الأزمة وأن تتراجع عن مهرجان التخفيضات الضريبية الذى أقامته لكبار رجال الأعمال والطبقات القادرة فى المجتمع المصري. إلا أن هذا لم يحدث! الحكومة لجأت إلى زيادة الإيرادات بعشرة مليارات جنيه فقط مقابل تخفيض المصروفات بعشرين مليار جنيه. مراجعة التعديلات التى أجريت على مشروع الموازنة العامة توضح نوع الانحياز الاجتماعى للحكومة، حيث قررت تحميل الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة، وبالتحديد تحميل موظفى الحكومة تكلفة التخفيض الجديد فى عجز الموازنة. الأجزاء التى بدأ نشرها من البيان المالى للموازنة تشير كما توقعنا من قبل إلى أن الجزء الأكبر من الإيرادات العامة سيأتى من المؤسسات السيادية المملوكة للشعب. التفاصيل توضح أن ما يقرب من 61% من الضرائب على الأرباح ستأتى من قناة السويس والهيئة العامة للبترول والبنك المركزى المصري. الفوائض المحولة من تلك الجهات مضافا إليها أرباح البنوك والشركات العامة تمثل 52% من الإيرادات غير الضريبة. بل إن الضرائب التى سيدفعها الموظفون تعادل أكثر من 75% من حجم الضرائب التى سيدفعها القطاع الخاص. باختصار الشعب ومؤسساته هو الذى سيمول الموازنة العامة للدولة وليس قطاع الأعمال الخاص، رغم أنه يستأثر بالجزء الأكبر من الناتج المحلي. نتنازل لكبار رجال الأعمال عن مستحقات الدولة ومستحقات الشعب ثم نتوجه إليهم بالرجاء كى يتفضلوا بمنحنا التبرعات!. التعديلات التى أجريت على مشروع الموازنة اقتطعت من بند الأجور 10 مليار جنيه ليقتصر إجماليها على نحو 218 مليار جنيه. الحكومة أعلنت ضرورة التصدى لظاهرة تفاقم أجور العاملين بالدولة وأنه سيتم تثبيت المكافآت والبدلات لجميع العاملين بالدولة بلا استثناء. الزيادة فى بند الأجور عن العام الماضى لم تعد تتجاوز 8.6%. ضبابية تفعيل الحد الأقصى للأجور يعنى إمكانية أن يكون المستفيد الأكبر من تلك الزيادة أصلا هم كبار العاملين بالدولة. المؤكد فى كل الأحوال أن الزيادة المتوقعة فى أجور الموظفين لن تكفى لمواجهة الزيادة المنتظرة فى المستوى العام للأسعار. معدلات التضخم الحالية تتجاوز 13% و حتى التوقعات المتفائلة للبيان المالى ترى أنها ستتراوح بين 11.5% و 12%. التعديلات التى جرت على مشروع الموازنة العامة تضمنت اقتطاع مليارى جنيه من الإنفاق على ما تطلق عليه الحكومة برامج البعد الاجتماعى والتى تشمل كما نعرف الإنفاق على الصحة والتعليم. أصلا وحتى قبل التعديل كان الإنفاق على هذين البندين أبعد ما يكون عما تنص عليه الاستحقاقات الدستورية. صحيح أن الصورة الكاملة لتوجهات الموازنة ستتضح بعد اكتمال نشر تفاصيل البيان المالي، ولكن كما يقول المثل الشعبي.. الجواب يبان من عنوانه!. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى