لا دين، لا قانون، لا فتوى، لا منطق، لا معنى فى تفسير أو تبرير هذا الإرهاب الأعمى الذى يجتاح البلاد، والذى كانت أحدث جولاته اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات غيلةً وغدراً وجبناً. وكل تعبير عن الغضب والانفعال والألم مفهوم فى مواجهة هذا الإرهاب الموغل فى إجرامه. لكن وبقدر ما أن الغضب واجب فإن العقل أوجب فى مثل هذه اللحظات العصيبة. يجب أن يكون احتكام الدولة إلى العقل هو المنهج المطلوب لإرضاء هذا الغضب وإحقاقه من خلال اضطلاع مؤسسات التحقيق والعدالة بأن تقول كلمتها بحزم وردع ودون إبطاء وفق ما يوجبه القانون. والقول بغير ذلك يتجاهل حقيقتين قانونية وواقعية. الحقيقة القانونية هى أن الدولة أكبر من أن تغضب أو تنفعل أو تنتقم بالمعنى الشائع للانتقام. الدولة تستمد رمزيتها من كونها سلطة عليا إحدى مهامها تحقيق الأمن وإقامة العدالة. أما الحقيقة الواقعية فهى أن اللجوء سابقاً لإجراءات استثنائية وممارسات منتقدة فى التعامل القانونى مع الإرهاب لم يمنع من استمراره وتفاقمه. قد لا يبدو هذا المنهج مرحباً به وسط حالة الصراع الدائر فى حاضرنا بين سلطة أهم واجباتها تحقيق الأمن لمواطنيها وحماية أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم وبين جماعات إرهابية غادرة وجبانة تقتل وتهرب، قد تأتى من الداخل أو تتسلل من الخارج. هذا صراع عرفته كثير من دول العالم قديماً وحديثاً. وخرجت منه أوروبا الغربية فى نهاية ستينيات القرن الماضى سليمة معافاة . خطورة (الصراع) لدينا أنه يكاد يتحول إلى (صرع) يجتاح الكثير من قنوات الإعلام الفضائى تحديداً. العقل صفة مطلوبة فى الدولة وضرورة لها مهما تعالت الضغوط عليها ومهما تعرضت لمحن وبدون العقل تفقد أى دولة كفاءتها السياسية فى إدارة شئون الناس فى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء . الاحتكام إلى العقل يعنى الهدوء والتفكير بهدوء وروية. فى مسألة مواجهة الإرهاب. أمن، وقانون، وقضاء، وسياسة، واقتصاد، وتعليم متهاو، وإقليم مضطرب، وتمويل أجنبى مريب، وأجندات عالمية تدق على الأبواب، وجار صهيونى يحبس آنفاسه ويتلمظ فى مكمنه. المواجهة مطلوبة على كل هذه المستويات. على صعيد المواجهة القانونية فإن الاحتكام للعقل يعنى مواجهة فاعلة ومتطوّرة وذكية لكن عادلة لملاحقة الإرهابيين ومعاقبتهم. ثمة حديث دائر حول تطوير القوانين الإجرائية كى لا تطول المحاكمات ويتأخر صدور الأحكام ويفقد القانون قيمته الرادعة. هنا ثمة تطوير مطلوب وثمة تطوير آخر متسرع وغاضب وبالتالى غير مطلوب. ولقد علمتنا تجارب سابقة أن أخطر انواع التشريع هو ما يكون صادراً تحت وطأة رد فعل غاضب ومنفعل (مهما كان الغضب والانفعال مبررين) ولهذا ينتهى الأمر فى نهاية المطاف بالعدول عن هذه القوانين المتسرعة لكن بعد أن تكون العدالة قد تأذت. فإعطاء محكمة النقض سلطة الفصل فى الطعون الجنائية بنفسها للمرة الأولى بدلاً من دورة إجرائية طويلة وبطيئة قد يبدو أمراً مقبولاً متى كان يلبى فى نهاية المطاف مبدأ التقاضى على درجتين، وإعادة تنظيم مسألة الأحكام الغيابية التى يجوز فيها الطعن بالمعارضة أمر مطلوب أيضاً لتفادى إطالة امد المحاكمات بفعل مراوغات المتهمين من قبضة العدالة. الحد من التوسع فى حالات وإجراءات ومدد الفصل فى مسألة رد القضاة أمر واجب. لكن وفى المقابل من الخطر مسايرة بعض الأقوال المتسرعة مثل مصادرة حق المتهمين فى استدعاء شهود نفى أمام المحاكم الجنائية لان ذلك يهدر حقاً أصيلاً وراسخاً للدفاع فى أى نظام للعدالة الجنائية فى العالم. فتنظيم استعمال الحق شيء مقبول لكن مصادرته كلية أمر غير مقبول مهما أسيء استعمال هذا الحق من جانب البعض. الاحتكام للعقل فى إطار المواجهة القانونية للإرهاب يعنى مثلاً إعادة النظر فى بعض الإجراءات التى تطيل أمد المحاكمة بلا مبرر حقوقى أو ضرورة واقعية، وهى إجراءات كثيرة منها ما يتعلق بتوزيع الاختصاصات أو بمدد إجرائية أو بشكليات صمّاء لا يترتب على تجاوزها ضرر حتى للمتهم نفسه. لكن هذا لا يعنى تعميم القول بالخروج على الضمانات الأساسية التى توجبها المحاكمة العادلة لان هذا ينال من قيمة الدولة العادلة قبل أن يهدر حقاً لهذا الفرد أو ذاك، ولنتذكر الآن وفى هذه اللحظة بالذات أن رفض طلبات تسليم المتهمين أو المحكوم عليهم إلى مصر أو رفض إعادة الأموال المصرية المنهوبة يكون بسبب مثل هذه القوانين. الدعوات المتسرِّعة أيضاً بإحالة قضايا الإرهاب إلى القضاء العسكرى ينسى أصحابها أن دعوتهم فى مثل هذه الظروف إنما تسىء ضمناً إلى القضاء العسكرى لأنها بذلك تصوره كلجنة عسكرية مهمتها اقتياد المتهمين إلى حبل المشنقة دون اكتراث بقوانين أو إجراءات أو ضمانات. ما يجب فعله لمواجهة العنف والإرهاب هو سرعة تحديث أنظمة العمل القضائى على أرض الواقع، فهنا حلقة بالغة الضعف. ما هو مطلوب للقضاء على بطء المحاكمات وتأخر تحقيق الردع هو تعميم إدخال نظم الميكنة والمعلوماتية الحديثة فى كل مؤسسات العدالة على أوسع نطاق، وزيادة عدد القضاة بما يلزم ويكفى للتحقيق والحكم فى قضايا كثيرة ومعقدة، وإنشاء قاعات محاكم جديدة ( قاعتان فقط لمحكمة النقض حالياً)، وإنفاق ربع ما تنفقه دولة صغيرة مثل الإمارات على تحديث معامل التحقيق الجنائى الفنى، وسرعة نشر الكاميرات الحديثة فى الشوارع والمؤسسات، وتطبيق القرارات النائمة ( الميتة) التى تلزم أصحاب المحال العامة بتركيب كاميرات خارجية. هذه مجرد أمثلة لتطوير مطلوب وملح يسهم بالفعل وبسرعة فى تحقيق العدالة الناجزة التى بسبب غيابها يفسر البعض تفاقم الإرهاب. قالوا.. لا شيء يزيدنا سموّا كالألم الشديد لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم