الملمح الرئيسى للعام الأول من رئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسى هو الحضور القوى للدولة، ليس فقط فيما يتعلق بتفعيل دور مؤسساتها وسيادة القانون، والذى شهد نقلة مهمة، ولكن أيضا- وهو ما يهمنا هنا- فيما يتعلق بإعادة الدور القوى للدولة فى تنفيذ وإدارة المشروعات القومية الكبرى، وعلى رأسها مشروع قناة السويس الجديدة، والمشروع القومى للطرق، ومحاولة إعادة الاعتبار للقطاع العام، فضلا عن تفعيل دور الدولة كمنظم للسوق، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمارات الأجنبية المباشرة لعدد من المشروعات الكبرى (تجربة المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ، مارس الماضى)، وإصدار الحكومة المصرية وثيقة "استراتيجية التنمية المستدامة: مصر 2030". وقد ارتبطت هذه التطورات بوجود قيادة سياسية قوية، ما وفر أساسا للحديث عن إمكان وضع مصر على مسار نموذج "الدولة التنموية" التى مثلت إطارا حاكما لعدد من التجارب التنموية فى الدول المتقدمة والصاعدة، خاصة اليابان، وكوريا الجنوبية، وعدد من دول جنوب شرقى آسيا، والصين، وغيرها. فرصة تاريخية لبناء نموذج مصرى فى الدولة التنموية وبغض النظر عن مدى توافر كامل شروط وسمات نموذج "الدولة التنموية" - على النحو الذى عرفته الخبرات الدولية السابقة - على السياسات الاقتصادية الراهنة فى مصر، لكن تظل هناك حقيقتان مهمتان يجب تأكيدهما، الأولى أن مصر لديها فرصة تاريخية الآن لاعتماد هذا النموذج كإطار حاكم لعملية التنمية. فقد قام نموذج الدولة التنموية على توافر ثلاثة مقومات أساسية هى: وجود قيادة سياسية قوية، وجهاز بيروقراطى كفء كشريك فى صناعة وتنفيذ سياسات التنمية، وأخيرا وجود نخبة من قطاع الأعمال، خاصة فى قطاع الصناعة، تؤمن بأهمية إنجاز هدف التنمية فى إطار تعاون وثيق مع الشريكين الآخرين (القيادة السياسية والبيروقراطية). وقد تطورت العلاقة بين البيروقراطية ونخبة رجال الأعمال لتأخذ أشكالا مختلفة حسب مراحل وأولويات عملية التنمية، وحسب رؤية القيادة السياسية لكيفية إدارة تلك العملية. الحقيقة الثانية أنه رغم وجود ملامح عامة لتجارب الدولة التنموية، لكن تظل هناك سمات خاصة لكل نموذج، الأمر الذى يعنى أنه يمكن- بل يجب- أقلمة تلك النماذج لتتلاءم مع الواقع والشروط المصرية. ولا تقتصر مقومات الفرصة التاريخية الراهنة أمام مصر على وجود قيادة سياسية قوية، لكن يمكن القول إن المزاج العام فى مصر، والخبرة السياسية للشعب المصرى بعد ثورتى يناير ويونيو تؤكد توافق هذا المزاج مع مفهوم "الدولة التنموية". فقد تبع ثورة يناير 2011 ظهور طلب واسع على السياسة (الديمقراطية والحريات العامة والسياسية)، وتراجعت الأهمية النسبية لمسألة التنمية الاقتصادية، بشكل لم يتناسب مع الشعار المركزى للثورة (عيش- حرية- عدالة اجتماعية) والذى وضع المطلب الاقتصادى فى الترتيب الأول للمكونات الثلاثة للشعار. وجاء الخطاب السياسى للقوى السياسية الجديدة، والقديمة أيضا، ومجموعة الوثائق الأساسية التى أنتجتها هذه القوى خلال المرحلة الانتقالية بعد يناير، ليعكس المزاج العام السائد بعد ثورة يناير، حيث ركزت بطريقة مبالغ فيها على المطالب السياسية واختزلت الديمقراطية، كهدف أصيل لأى مجتمع، فى الحريات العامة وصناديق الانتخابات، وفى المقابل كان هناك إهمال للشروط الهيكلية للديمقراطية، ولمسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة طبقيا وأقاليميا، باعتبارها شروطا رئيسة لبناء ديمقراطية حقيقية ومستديمة. إن الدرس المهم الذى أثبتته تجربة الانتخابات البرلمانية 2011-2012، ثم انتخابات الرئاسة 2012، وما شهدته هذه المرحلة من عدد من الاستفتاءات، أن صناديق الانتخابات دون وجود طبقة وسطى واسعة وقوية، وفى ظل معدلات فقر مرتفعة…إلخ لا تنتج إلا "ديمقراطيات" زائفة وهشة، كما توفر فرصة كبيرة لصعود الخطابات السياسية الاقصائية والخطابات الدينية الإقصائية بطبيعتها والقائمة على تديين السياسة وتأميمها لمصلحة تيارات بعينها. وعلى العكس من ثورة يناير، فقد ارتبطت ثورة يونيو 2013 بتحول واضح فى المزاج العام للمجتمع المصرى، وتحول واضح فى اتجاه تصاعد الطلب على دور قوى للدولة، تم ترجمته فى انتخابات الرئاسة سنة 2014 من خلال انتخاب قيادة سياسية قوية، بالإضافة إلى توارى الطلب على السياسة نسبيا، لمصلحة مسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن أهمية هذا التحول لا تقتصر على الأهمية النسبية المتصاعدة التى بات يوليها المصريون لمسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولكن فيما تعكسه من فرصة مهمة لبناء ما يشبه العقد الاجتماعى الجديد، وفرصة لتعظيم قدرة الدولة والقيادة السياسية على تعبئة قدرات وقوى المجتمع وربطها بإستراتيجية وسياسات التنمية. الدولة التنموية ليست دولة سلطوية بالضرورة ومع أهمية التحول السابق، ومع أهمية نموذج "الدولة التنموية" كإطار مهم لعملية التنمية فى مصر، هناك جدل تثيره الحالات التاريخية، خاصة حالة كوريا الجنوبية، والذى يجب حسمه ونحن بصدد الحديث عن "نموذج مصرى". يتعلق هذا الجدل بما إذا كانت "الدولة التنموية" هى "دولة سلطوية بطبيعتها"؟ وتأتى أهمية حسم هذا الجدل فى ضوء ارتباط التجربة الكورية بقيادة سياسية ذات خلفية عسكرية، وهو الجنرال بارك تشونج، وما تضمنته هذه التجربة فى إعطاء الأولوية لمسألة التنمية، وتأجيل مسألة الديمقراطية إلى مرحلة لاحقة، فبينما انطلقت عملية التصنيع والتنمية فى بداية الستينيات، تأجلت عملية التحول الديمقراطى إلى عقد الثمانينيات. وتأتى أهمية حسم هذا الجدل بالنظر إلى عاملين. أولهما هو التشابه بين الحالتين الكورية (التاريخية) والمصرية (الراهنة)، من حيث وجود قيادة سياسية ذات خلفية عسكرية، وثانيهما ما يثيره البعض حول استعداد نظام ما بعد يونيو لتأجيل مسألة الديمقراطية. ومن ثم، قد يفهم البعض أن الدعوة إلى نموذج مصرى فى الدولة التنموية هى دعوة إلى دولة تنموية بالمعنى الاقتصادى- سلطوية بالمعنى السياسى. واقع الأمر أنه لا توجد علاقة ارتباط مؤكدة بين الدولة التنموية بالمعنى الاقتصادى، والدولة السلطوية بالمعنى السياسى. ويمكن القول إن التلازم التاريخى الذى حدث فى الحالات التاريخية هو وليد لتلك التجارب التى نشأت فى مراحل تاريخية محددة، وهو ما أسس للمقولات النظرية السائدة فى هذا المجال. فقد وفرت تجربة بارك تشونج أساسا للعديد من الدراسات للحديث عن الدور التنموى للأنظمة السلطوية. ويعيدنا هذا إلى أحد الفروض البحثية المهمة التى شغلت الكثير من الأدبيات والدراسات الإمبريقية حول ما إذا كانت هناك علاقة ما بين السلطوية والتنمية؛ بمعنى هل تمثل السلطوية شرطا من شروط التنمية فى الدول النامية بشكل عام؟ وهل تمثل شرطا من شروط الدولة التنموية بشكل خاص؟ لقد انتهت أدبيات ودراسات إمبريقية كثيرة ومهمة فى هذا المجال إلى أنه لا توجد علاقة تلازم بين السلطوية والتنمية، بمعنى أنه إذا كانت الديمقراطية لا تمثل شرطا ضروريا أو كافيا للتنمية، فإن السلطوية أيضا لا تمثل شرطا ضروريا أو كافيا للتنمية. ويُستنتج من ذلك أن الطابع السلطوى لنظام بارك تشونج لم يكن شرطا ضروريا فى تدشين تجربة التنمية الكورية، إذ ارتبط الأمر فى النهاية بعدد من السياسات المهمة التى طبقها بارك فى تحقيق الانطلاقة الاقتصادية لبلاده. واستنادا إلى ذلك، فإن الحديث عن أهمية استناد مصر إلى نظرية "الدولة التنموية" كإطار لعملية التنمية لا يعنى بأى حال من الأحوال الدعوة إلى دولة سلطوية، فالأخيرة لا تمثل شرطا ضروريا لتحقيق التنمية. إن البحث الأنسب فى العلاقة بين وجود قيادة سياسية ذات خلفية عسكرية على قمة النظام السياسى ونجاح هذه القيادة فى تدشين تجربة تنموية - كما حدث فى كوريا الجنوبية على سبيل المثال - لا يقع فى نطاق العلاقة بين الأنظمة السلطوية والتنمية، ولكنه يرتبط بقدرة هذا النمط من القيادات السياسية على تطبيق مفهوم "الدولة التنموية" الذى يحتاج بطبيعته إلى قيادة سياسية قوية لديها الرؤية والإرادة والقدرة على بناء علاقة تكامل وشراكة مع الجهاز البيروقراطى ونخبة رجال الصناعة على تحقيق التنمية. لكن تجدر الإشارة آخرا إلى أن توافر المقومات السابقة للدولة التنموية فى مصر لا يعنى تلقائيا الانتقال إلى هذا النمط، فجوهر "الدولة التنموية" يقوم - فى سياق الشراكة الثلاثية السابقة- على حزمة من الاشتراطات، تبدأ بوضع رؤية واستراتيجية واضحة لعملية التنمية (الأهداف، والسياسات، والأولويات، والأدوات…إلخ)، تربط البيروقراطية ونخبة رجال الأعمال بتلك الإستراتيجية، وبشكل يضمن عمل البيروقراطية باستقلالية فى مواجهة قطاع الأعمال، ويضمن، ثانيا، عمل الإثنين على أرضية إستراتيجية التنمية وأولوياتها الموضوعة سلفا من الدولة وليس على أرضية أى منهما، وبما يضمن، ثالثا، إعطاء الأولوية لقطاع الصناعة والتنمية التكنولوجية. صحيح أن بعض نماذج الدولة التنموية ارتكزت إلى قطاع الخدمات لكن هذا كان راجعا إلى ظروف خاصة باقتصادات هذه الدول. ومن ثم، فإن "الدولة التنموية" هى دولة تدخلية، وهو نمط يختلف عن نموذج "الاقتصاد المخطط - الدولة المنتجة"، الذى ساد خلال عقود الخمسينات والستينيات والسبعينيات، ويختلف أيضا عن نموذج "اقتصاد السوق - الدولة المُنظِمة" الذى تحولت إليه مصر بدءا من عقد التسعينيات. كما سيظل الانتقال إلى هذا النمط مرهونا بإصلاح الجهاز البيروقراطى وتطوير نخبة وطنية من رجال الأعمال والصناعة. لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات