إن غاية ما يطمح إليه الإنسان المسلم في كل أعماله فضلاً عن شهر رمضان أن يستحضر دومًا معية الله عز وجل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك»، وأن يراقبه في كل أحواله وتصرفاته، ومن ثم على المسلم أن يستثمر شهر رمضان في ترسيخ معنى المراقبة، وهي قيمة عظيمة في الشريعة الإسلامية. حيث إنها أساس تربية الضمير، وإرسال قواعد التعامل مع النفس ومع الآخر ومع الله، وذلك من خلال المكاشفة التي تحافظ على اتساق الإنسان مع نفسه، والله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا في كتابه العزيز، بل وصف نفسه سبحانه وتعالى أولاً بذلك فقال: {وكان الله على كل شيء رقيبًا}، وقال تعالى: {وهو معكم أينما كنتم}. فقد حثنا الإسلام على أن نلتزم بهذه المراقبة، وهي ليست رقابة خانقة أو مراقبة تسلط وإنما مراقبة تربية وتهذيب للنفوس، وهذا المعنى هو الوارد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتزكية هذه القيمة «المراقبة» فقال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت». فإذا ما التزم كل واحد منا بهذه القيمة العظيمة في نفسه أولاً ومع غيره ثانيًا فضلاً عن علاقته بربه يصبح عامل بناء في مجتمع يحاول أن تكون نفوس أبنائه سوية، وعلاقاتهم صحيحة، بعدها يبدأ بناء الحضارة والرقي والازدهار وإفشاء السلام والأمان في المجتمعات. إن المراقبة وردت- ليس بلفظها وإنما بمعناها الكبير- في حديث سيدنا جبريل عليه السلام عندما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام والإيمان ثم عن الإحسان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»؛ وهنا وضع الإسلام قيمة المراقبة حتى يتسنى لنا أن نعبد الله عبادة حقيقية، فالصائم في رمضان لا يطَّلع عليه سوى ربه عز وجل، وعليه كان رمضان شهرًا مُعينًا، أو هو من أكبر العوامل المُعينة على تزكية قيمة المراقبة. والشرع الشريف يبين لنا في نصوصه أنه ما راقب أحد ربه في عبادته أو في معاملاته أو في سلوكه إلا كان له من الأجر أكثر من غيره ممن فعل هذا الفعل بغير مراقبة، أو بمراقبة يشُوبها بعض التصنُّع أو الالتفاف حول المصلحة الشخصية أو عدم مراعاة الآخر، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالى حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» وما كان الأجر كبيرًا على فريضة الصيام، فقد زاد الله هذا الشهر تشريفًا بأن خص نفسه سبحانه وتعالى بهذا الأجر دون الملائكة أو أحدٍ من الملأ الأعلى إلا لما في الصيام من قيمة المراقبة؛ وكأن الله عز وجل يبين لنا أنه قد تغيب عنا في بعض الأوقات هذه القيمة فأراد أن يأخذنا إليها مرة ثانية ويرجعنا إليها عن طريق شهر رمضان المبارك. إن المراقبة هي أداة إحياء النفوس، وتفعيل قيمة الضمير التي قد نفتقدها في كثير من الأحيان، وقيمة الضمير هذه المأخوذة من المراقبة إذا قام بها الإنسان على حقيقتها فإنه لا يهدر وقتاً في غير منفعة؛ ولا يهمل في عمل منوط به، ولا يتخلف عن أمر واجب عليه فعله، إنه يعامل الناس كل الناس من منطلق أن الله عز وجل يراقبه فيعاملهم بالإحسان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن». ومعاملة الإحسان هذه هي التي تزيل أي كراهية من النفوس والقلوب لأن الإحسان في معناه الحقيقي فضلاً عن أنه يشتمل على المراقبة معناه أنك تحسن إلى من أساء إليك؛ فإذا فعل الإنسان ذلك عالج النفس التي أمامه، فكأن الله عز وجل يقول لنا في رمضان نريد منك أن تتداوى بالمراقبة في هذا الشهر وأن تكون سببًا للدواء لغيرك. مفتى الجمهورية