يحمل فكرا وسطيا مستنيرا،جعل حياته جهادا متصلا وإحساسا بالمسئولية التي يحملها على عاتقه، فتحرك في كل مكان يرجو فيه خدمة الإسلام والمسلمين، لذا أحس الناس فيه بقوة الإيمان وصدق النفس. إنه الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، الذى أكد فى حواره مع»الأهرام» أن الأزهر سيظل على مدى الدهر»غصة» فى حلق المتطرفين والمتسيبين، ويجب تكاتف جميع مؤسسات الدولة لمواجهة الإرهاب، موضحا ان ضياع الأخلاقيات فى المجتمعات يؤدى الى انهيارها، لأنه لا خير فى الأعمال بغير الأخلاق، كما تحدث العالم الجليل فى حواره ولأول مرة عن مولده ونشأته وحبه للعلم، شوايضا عن أبويه - يرحمهما الله - وماذا تعلم منهما، مسترسلا فى الحديث عن أهم ذكرياته فى شهر رمضان المبارك وكيف تعلم من المواقف التى تعرض لها خلال صيامه الشهر الكريم وهو صغير السن، والى نص الحوار.. فى البداية سألناه: ما ذكرياتك فى رمضان؟ رمضان له مذاق خاص، وذكريات لا تنسى، وكان أبي شديد الحرص على ان يشتري لنا «فانوس» رمضان يدخل السرور إلى قلوبنا، ويحببنا في الصيام، ويذكر لنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صوموا تصحوا»، فنشأت منذ صغري وأنا أحب الصيام، وبدأت هذه الفريضة وأنا في سن الثامنة من عمري، وحينها كنت في المرحلة الابتدائية، مع ذلك كنت طفلا وأنا أرى الإفطار في شهر رمضان عيبًا وينتقص مني، لذا عندما جاءنا يومًا – وكنت صغيرًا - هدية فى نهار رمضان من الفطائر الساخنة وكانت رائحتها شهية، فنسيت أني صائم وأكلت منها، حتى شبعت، وعندما انتهيت سألني والدي: هل انتهيت؟! وحينها فقط تذكرت أني صائم، وحزنت جدًا لأن والدي لم يذكرني، ولكنه علمني درسا جديدا أن الصائم إن أكل ناسيًا فقد أطعمه الله وسقاه، وشرح لي معناها. وما زلت أتذكر والدي في رمضان هو يقرأ القرآن، ويتأمل في تفاسيره طوال نهار رمضان، وكانت أمي تزين حديثها دائمًا بالدعوات الجميلة وهي تعد لنا طعام الإفطار، وما زلت أتذكر عصير «قمر الدين» الذي لم أذق مثله في حياتي. ما هو جدول فضيلتكم للعبادة فى شهر الصيام؟ رمضان شهر الطاعات التي يرى العبد فيها حلاوة مميزة وروحانية عالية، فهو شهر القرآن، والصيام، والقيام، والذكر، وهو كذلك شهر الكرم والرحمة حيث يكثر فيه التواد والتكافل الاجتماعي والتزاور وصلة الأرحام، فشهر رمضان فيه من الخيرات الكثير، ووعد الله فيه الصائمين بجزيل الثواب ومضاعفته. لذا أكون أشد حرصًا على الاجتهاد في هذا الشهر الكريم وألا تمر عليّ ساعة دون طاعة أو عبادة أو مجلس علم أو خدمة لأحد من خلق الله، لأن أيام شهر رمضان لا تعوض، والفضل فيها عميم، وطوبى لمن فاز في رمضان ونال فيه الخيرات. وما نصيحتك للصائمين؟ الغاية من الصيام هي الوصول إلى مرتبة التقوى، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وعلى المسلم أن يستعد لاستقبال شهر رمضان الكريم بالعزم على ترك الآثام والسيئات والتوبة الصادقة من جميع الذنوب والإقلاع عنها وعدم العودة إليها مرة أخرى، فرمضان هو شهر التوبة، ومن الخيرات التى يمكن أن تقرب العبد من الله أن تشعر بالفقراء والمساكين وتحرص على أن تُفطر صائمًا فى رمضان، حتى وإن كان على تمرة أو شربة ماء حسب استطاعتك، وأن تحرص على صلة الأرحام وبر الوالدين وذكر الله كثيرا والاستغفار. كما أنه من الضروري أنْ تكون علاقتنا بمن حولنا يسودها الود والمحبة ونحرص على السعي فى قضاء حوائج الناس بأن نجعل جزءًا من يومنا للأعمال التطوعية لخدمة الوطن والمجتمع، وفى الليل احرصوا على التهجد وقيام الليل خاصة في وقت السحر أي في الثلث الأخير منه، يقول الله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)، ومن الضروري أن يكون المسلم حريصاً على البعد عن مجالس السوء وفحش القول والغيبة والنميمة، وأن يتخلق بالأخلاق الحسنة والبعد عن أذى أخيه المسلم وبهذه الأخلاقيات والعبادات يمكن أن ننال الرضا من الله عز وجل. وكيف تعود منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع؟ مهما تغيرت الأزمان والحضارات فإن القيم الأخلاقية تظل نقطة الارتكاز في مسيرة الأُمم والشعوب، فبالتمسك بها يكون التقدم والصعود، وبالتنازل عنها والتفلت منها يكون الانهياروالسقوط، ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ومصدر القيم عندنا هو الدين، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مصير امرأة كانت تصوم النهار وتقوم الليل إلا أنها كانت تؤذي جيرانها بلسانها فقال: «هي في النار»، وعن مصير امرأة كانت تصلي فرضها ولا تؤذي أحدًا فقال: «هي في الجنة»، لأن الأعمال بدون أخلاق لا خير فيها، والأخلاقيات هي التي تنظم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمعات، وتضع مؤشراته وضوابطه، وتلعب دورًا كبيرًا في حركة الأمم ونموها، وأنه في حالة ضياع هذه القيم فستكون هناك الفوضى، وسيعم الاضطراب سائر العلاقات، فيكون التفكك والدمار والانحلال. والمجتمع المسلم من المفترض أن يتميز بمنظومة قيم سامية تستمد أصولها من الوحي الشريف والأخلاق المحمدية ممايجعلها متينة تستجيب لحاجيات الزمان والمكان بعيدة عن أهواء الناس وشهواتهم، تسعى لبناء إنسان يحقق الاستخلاف ويسعى لعمارة الأرض بالخير والصلاح ويدرأ الشر والفساد، ولكي نبني الفرد على قيم الإسلام وأخلاقياته، يقع العبء في المقام الأول على الأسرة باعتبارها المصنع الأول للقيم، فدورالوالدين جليل القدر عظيم النفع، فكم من قيمة غرست في الصغر فنقشت في شخصية الواحد منا رغم تحولات الزمان. ثم يزيد من ترسيخ تلك القيم الوالد الثاني وهو المعلم الذي يسعى بدوره الى تتمة عمل الأسرة، محاولا كذلك تصحيح ما يحتاج إلى تصحيح وتقويم ما يستحق التعديل، ومن هنا تأتي أهمية العلم والمؤسسات التعليمية، وكذلك وسائل الإعلام عليها دور كبير وخطير خاصة في عصر الفضاء المفتوح، فعلى الفضائيات أن تقدم المفيد وتحث على الأخلاق، لا هدم القيم والأخلاق. ولماذا الهجمة الشرسة على علماء الأزهر داخليا وخارجيا؟ الأزهر كان ولا يزال غُصة في حلق المتطرفين والمتسيبين كذلك، فهو رمانة الميزان التي تقدم الإسلام الوسطي السمح، الذي يقبل الآخر دون المساس بثوابت الدين، والمؤسسة الدينية في مصر وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية لها تاريخ ناصع في الدفاع عن الدين ونشر الوسطية والتسامح بين الجميع، علاوة على احتضان الفكر المنفتح. وعلماء الأزهر عبر تاريخهم الطويل وميراثهم العظيم كانوا ومازالوا لهم دور فاعل في نشر ثقافة الإسلام السمح ووسطيته وفي حماية هوية مصر الدينية، فالأزهر وعلماؤه جزء لا يتجزأ من حركة المجتمع وغير منفصل عن مشاكل الأمة وواقعها، وهؤلاء العلماء والرموز منهم على وجه الخصوص يجب احترامهم وإجلالهم، لما يحملونه من دين الله ومن ميراث سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، فالعلماء ورثة الأنبياء. وبماذا تفسرون انصراف بعض الناس عن علماء الأزهر الوسطيين والذهاب إلى اشباه العلماء؟ ابتعاد الناس عن الأزهر ومنهجه القويم هو الذي أنتج المتطرفين أمثال «داعش» وغيرهم، وكذلك أنتج لنا أصحاب دعوات التسيب والانحلال، فهناك فرق كبير بين التعلم في الأزهر الشريف ضِمن منظومةٍ متكاملةِ الأطراف - مِن أستاذٍ وتلميذٍ ومنهجٍ وكتابٍ وجوٍّ علميٍّ رصينٍ ثابتٍ منذ مئات السنين- وبين خوارج العصر الحديث الذي ابتُلِينا بهم في زمننا هذا، ولقد بُحَّ صوتنا في محاربة هذا التوجه الذى يجيز لغير المتخصصين في علوم الدين أن يتصدروا قبل أن يتعلموا وأن يتكلموا قبل أن يتفهموا. والأزهر الشريف بمرجعيته الدينية الوسطية يحاول الحفاظ على الوسطية البعيدة كل البعد عن التشدد والمغالاة، ويحاول تقديم روح الدين البعيدة عن هذه العصبية المقيتة، انطلاقًا من رسالته الوسطية لما له من ثقل فى الداخل والخارج، ولما له من مكانة فى قلوب مسلمى العالم كافة، والمصريين على وجه الخصوص، وأعلم جيدًا أن الشعب لم يفقد ثقته بالمؤسسة الأزهرية، بدليل أنه يعود إليها فى النهاية، ولكنها تحتاج إلى تجديد وتطوير يتماشى والمرحلة الجديدة فى مسيرة الوطن. وكيف يكون علاج ذلك؟ كما قلت مرارًا وتكرارًا إننا في حاجة إلى تجديد الخطاب الديني وآلياته ليتماشى مع العصر مع الحفاظ على الثوابت الدينية، والخطاب الدينى جزء من كل، وينبغى تفصيلا وإجمالا إذا أردنا التجديد على نحو صحيح أن نضع مشروعا محكما، والمادة معنا فلن نخترع مادة جديدة، ويكفى أننا تركنا عبر السنين فرصا واستهانة في التعامل مع هذا الدين الكريم حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من حالة الانفراط، وعلينا أن نكون واضحين فلا يمكن تجديد الخطاب الديني إلا من داخل الأزهر الشريف، فالأزهر سيظل يحمي مصر من الأجندات الخارجية والتلاعب بالدين. تتعرضون كل يوم لهجوم من قبل البعض سواء حينما كنتم فى دار الافتاء او بعد ذلك..فما سببها وبم تردون على تلك الهجمات؟ السبب هو الاجتزاء والتلفيق لتحقيق مصالح معينة لجماعات أو أفراد، فعمدوا إلى الكثير من التصريحات والآراء فيقتطعونها من سياقها لتعطي معنى غير المراد منها لإثارة الرأي العام وإحداث بلبلة في المجتمع للتغطية على جرائمهم وأفعالهم المخالفة للشرع وللقانون، وأقول لهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل). يعانى المجتمع حاليا من انتشار الفكر المتشدد والمتطرف بين الشباب.. فهل لديكم خارطة طريق للقضاء على هذا الفكر؟ يمكن ذلك بنشر الأخلاق المحمدية التي تفيض بالرحمة والإنسانية وقبول الآخر مهما كان انتماؤه أو عقيدته، وكذلك نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة ودحض شبهات هؤلاء الخوارج الذين يسيئون للإسلام أكثر من أعدائه، وهذه المهمة تقع على عاتق مؤسسات الدولة جميعها التي يجب أن تتعاون معا في مواجهة التطرف والإرهاب، وخاصة المؤسسات التعليمية لما لها من دور كبير في تهيئة النشء وتربيتهم وبناء الإنسان المصري المستقيم المحب لوطنه والناس أجمعين. وكذلك الإعلام عليه دور مهم في التصدي للتطرف عبر التعاون مع الأزهر وعلمائه لكشف شبهات هؤلاء القوم، وكذلك استضافة كافة المتخصصين في مختلف المجالات القادرين على مواجهة هذه الأفكار الشاذة. ولماذا جُل اهتمامكم بالشباب فى كل أحاديثكم ونصائحكم؟ لأن الشباب هم عماد كل أمة ووطن، وحماية الشباب من الفكر المنحرف، ضمانة لأمن المجتمع.