تناول المقال السابق كيفية العلاج الذى وضعته دولة الخمسينيات والستينيات لمعالجة قضية التفتت الزراعى بعد أن وزعت الأراضى على الفلاحين المعدمين مع صدور قانون الإصلاح الزراعى فى سبتمبر عام 2591. اشرنا إلى أن هذه الدولة عالجت مشاكل التفتت الحيازى بسياسة التجميع الذى حفظ لكل منتفع ملكيته مع تجميع الزراعات فى حوض واحد كبير تنظم أعماله الجمعية التعاونية للإصلاح ويتبع نظام الدورة الزراعية تحت إشراف مرشدين زراعيين، معينين من قبل الدولة، ساندوا المزارع فى إدخال التقنيات الأحدث للزراعة كالحراسة المشتركة والتعامل مع التقاوى الجديدة واستخدام الأسمدة، أى مستلزمات الإنتاج الأساسية التى يحتاجها المزارع. وكما ذكرنا لم يكن هذا النظام التعاونى مثاليا يساعد على استمراريته بغض النظر عن تغير الأنظمة الأساسية ولكنه كان تحت إشراف الدولة التى كانت تسمح بالقليل من الديمقراطية التشاركية والكثير من القرارات الإدارية. لذا كان المساس به وإضعافه سهلا على حكام فترة السبعينيات التى أضعفت التعاونيات وبدأت تعد الزراعية المصرية للدخول فى مرحلة قوانين العرض والطلب، تماما كما أوقفت ضخ الاستثمارات فى وحدات القطاع العام. كانت لسياسة الإنفتاح تأثيرها على الزراعة تماما كما كان تأثيرها على الصناعة. كانت فترة السبعينيات فترة عصيبة على الزراعة المصرية. مع التعديلات فى أسعار النفط التى حدثت بعد حرب 3791 وبداية حركة تنمية هائلة فى بلدان آبار النفط العربى وهجرة ملايين العمال الزراعيين والصناعيين وصغار ملاك الأرض الزراعية لبناء التنمية الخليجية، فقدت الزراعة المصرية خبرة الفلاح العامل بعد أن تركها وهاجر إلى خارج البلاد تاركا إياها للمرأة والأطفال. خلال هذه الفترة شاهدنا ظواهر غريبة على علاقة الفلاح بالأرض. عرفنا المعنى الحقيقى لتجريف الأرض لصالح الأقمنة التى تصنع الطوب كما تعرفنا على التعدى على الأرض الزراعية لتحويلها إلى أرض بناء كما شاهدنا تراجع الإنتاج الزراعى بشكل لافت.. كانت مغريات مال الريع «التحويلات» أقوى تأثيرا على الفلاح المصرى من ناتج القيمة المضافة الناتجة من الزراعة. وللأسف لم تهتم الدولة بتحويل هذا الدخل الذى يصنعه المصريون بعرقهم فى الغربة إلى أى نوع من التنمية وإنما تركته لأوهام واستغلال شركات توظيف الأموال ولمشاريع الاستيراد دون تحويل عملة وبالانفاق الترفى الذى لا يبنى وطنا ولا يضمن مستقبل شعب. الخلاصة أن هذا التفتيت الزراعى الذى تعانى منه الزراعة المصرية الآن كان نتيجة لسلبيات لم يسهم فيها الإصلاح الزراعى ذاته كما يدعى أصحاب الفكر الليبرالى الجديد لذا لابد الآن ونحن نتجه إلى القرى الأكثر فقرا وإلى استثمار الأراضى المستصلحة والتى ستوزع على الشباب أن نأخذ إيجابيات الإصلاح الزراعى مع تجنب سلبياته. كانت إيجابياته أنه جمع الزراعات وطورها وكانت سلبياته أنه لم يعترف بالمبادئ التعاونية المبنية على الديمقراطية والمشاركة والإستقلال التى تسير عليها التعاونيات فى مائة دولة تضم 008 مليون عضو تعاونى زراعى وصناعى وخدمي. لذلك فالتوجه إلى تنمية القرى الأكثر فقرا وإلى الأراضى التى تستصلح الآن لابد أن يتعامل مع القرية أو على مجموعة الزراعات الموزعة على أساس أنها وحدة اقتصادية، يهدف التوجه إليها لتعظيم قواها الإنتاجية ليس لمجرد إدخال بعض الخدمات إليها، حتى لوكانت خدمات أساسية. ولا يعنى ذلك أن نهمل الجانب الإنسانى للمواطن الريفي، بل على العكس لابد أن يسير التوجه إلى القرى وإلى الإنسان الريفى لتحسين حياته والاعتراف بحقه فى مسكن ملائم ومياه نظيفة وصرف صحى فى خط متواز مع مشاريع تعظيم قوى الإنتاج الريفى وتمكين الفلاح المصري. وقد يتصور البعض أن ذلك يأخذ وقتا طويلا ويحتاح إلى جهد ومال كثيفين. على العكس فتنمية الريف على أساس المشاركة يوفر الوقت والجهد والمال. تثبت التجارب ذلك. فالتنمية الحقيقية هى التى تقوم على تنظيم القدرات البشرية فى المقام الأول. كما أننا لا تحتاج إلى لجان أو رسم لإستراتيجيات ولا لاستيراد خبراء أجانب ولا استشارات علاجية مشوهة من المؤسسات الدولية المالية ولا حتى لاتخاذ رأيها الذى بتنا نعرف نتائجه وسط أمواج البحر المتوسط. فحل القضية الزراعية المصرية والتنمية الريفية التى تحافظ على الأرض وتحمى وترقى بحياة الفلاح لها رجالها وخبرائها ودراساتها فى مصر. فلايمكن أن ننسى أن مصر تملك أعرق كليات الزراعة الإقليمية والتى هى على مستوى القارة الإفريقية. كما تملك أكبر عدد من التعاونيين الذين طالبوا بتنفيذ تعاونيات زراعية من بدايات القرن العشرين. فإذا كانت أول التعاونيات الزراعية فى العالم قد تأسست منذ 251 عاما فإن أول النداءات المصرية لقيام تعاونيات مصرية تساند صغار الملاك الزراعيين كان عام 8091. ومنذ ذلك العام لم تتوقف المطالب التي، إن كان قد تمت الاستجابة لها فى وقتها، لما كنا الآن نعانى من التآكل فى المساحة الزراعية ولا من هجرة فقراء الريف إلى العشوائيات ولا من تكرار الكلام والحديث عن التوجه للقرى الأكثر فقرا. وكان الريف بكل اقتصادياته قد اندمج منذ زمان بعيد فى الاقتصاد الرسمي. نحن الآن فى أشد الاحتياج لهذا التوجه الاجتماعى الجديد الذى يطلقون عليه عبارة «الاقتصاد الاجتماعي» الذى يحافظ على اتساع قاعدة الملكية مع ضمان عدم تمركزها فى يد الواحد أو الاثنين فى المائة من الملاك الزراعيين. نريد هذا التوجه ليمنع تحول مواطنى الريف إلى بشر بلا أرض وإلى عمال زراعيين غير منظمين بلا حقوق. فتعود العجلة إلى الوراء لأكثر من ستين عاما مضت. فبالقطع لا نريد إصلاحا زراعيا جديدا كما أننا لا نريد تمركز الأرض فى يد القلة. نريد نظاما تعاونيا زراعيا يصبح المحرك الأساسى للإنتاج الزراعى .نريد هذا النظام الآن قبل أن نبدأ فى احتفالات توزيع الأراض الجديدة أو حتى قبل الدخول الجدى إلى القرى الأكثر فقرا. خاصة بعد صدور تقرير منظمة العمل الدولية الأخير الذى أشار إلى الواقع الاقتصادى المرير الذى أوصلتنا إليه الليبرالية الجديدة. قال التقرير إن الفجوة بين الفقراء وبين الأقلية الصغيرة من الأثرياء قد زادت اتساعا. كما ذكر التقرير أن البطالة زادت بنسب عالمية غير مسبوقة وأن الوظائف الآن تتاح بلا شروط عمل جيدة بعد أن تراجع نظام عقود العمل وباتت نسبة 57% من العاملين من الأجراء ومن المهنيين يعملون بدون عقود دائمة أو مؤقتة بما يعنى أنهم لا يتمتعون بأى نظام تأمين اجتماعي. لقد حولتنا الليبرالية الجديدة إلى مجرد «ناس معلقة فى الهواء». بتنا تروسا فى عملية اقتصادية تقدم لهم الأرباح لنستجديها فيما بعد للمساهمة فى بناء مستشفيات أو علاج بعض الأفراد أو تطوير مشروعات إنسانية فردية او حتى الحصول على تكاليف تأشيرة عمرة. ننتظر دائما فاعل الخير.أنسونا أننا صناع هذه الثروات التى جنوها والتى وعدونا قبلا بأنها ستتقاطر علينا شيئا فشيئا. فى البلدان المائة التى عملت بالمبادئ التعاونية من 251 عاما استطاعت تعاونياتها النمو والازدهار حتى باتت مؤسسات مالية تسهم فى الناتج الإجمالى القومى وتوفر جانبا مهما من الإنتاج. فالتعاونيات الزراعية الاسبانية على سبيل المثال تنتج 54% من منتجات الألبان ومن زيت الزيتون. وباتت مصدرة للإنتاجين معا. وفى كل الأحوال، تقيم الملكية التعاونية توازنها الاجتماعى بين الملكية العامة والملكية الخاصة. وفى أحيان كثيرة تعطى النموذج لعلاقات العمل، لأن نموها يساعدها على فتح مجالات عمل جديدة أمامها فتوظف الشباب فى إطار علاقات عمل أفضل كثيرا من تلك العلاقات التى يقدمها القطاع الخاص. لن يقام العدل الاجتماعى الذى طالبت به ثورة الخامس والعشرين من يناير بمجرد توزيع الأرض أو تجميل الطرق وإنما ستقوم دعائم هذا العدل فى الريف بتمكين الريفيين بإعطائهم حريتهم فى صياغة مستقبلهم، ورأيى أن العدل الاجتماعى فى الريف سيتحقق مع قيام حركة تعاونية حقيقية. لمزيد من مقالات أمينة شفيق