لا أعرف ما إذا كان «سقراط» عاقلا أم مُغَفلا عندما رفض خطة قدمها إليه أحد تلامذته للهرب من المقصلة التى كانت تنتظره كواحد من الخارجين على سلطان الآلهة الأثينية ومن ثم سلطان دولتها. لكن مرافعة الرجل فى محاورته مع «أقريطون» تؤكد أن ثمة قِيَما يمكن للإنسان أن يدفع حياته ثمنا لها دون أن يطالب الآخرين بأن يؤدوا فريضتها نيابة عنه. لقد كان احترام سقراط لقانون الدولة الأثينية، التى كان يرفضها، سببا مباشرا فى ذهابه إلى أول مقصلة للرأى عبر التاريخ، حيث يقول فى آخر محاوراته مع القانون كأنه يتحدث إلى نفسه: أتظن يا سقراط أن دولة يمكن أن تقوم لها قائمة إذا عصى المواطنون أحكامها؟ إذا كنت قد رأيت وجوب إعدامك، أفيكون من حقك أن تجازينى إعداما بإعدام»؟!. ولم يكن بوسع أحد من محبى هذا الرجل الاستماع إليه مرة أخرى سوى فى لحظة صعوده إلى المقصلة فى كلمة وداعية أخيرة وهو يقول: «لا تحزن ياكريتون. فالإنسان يبدأ بالموت منذ أن يولد. والبكاء اليوم يعادل البكاء يوم الميلاد». الأمر نفسه حدث، بفاصل زمنى يتجاوز ثمانية عشر قرنا من الزمان، مع القديس «توماس مور» واضع أسس المدينة الفاضلة «يوتوبيا» المأخوذة فى جانب كبير منها عن مدينة الفارابى التى كرسها كليهما لما سمياه «الأمة الفاضلة» فهى مدينة كما يقول مؤلفها: «ليست للمجتمعات الناقصة». أما «توماس مور» فكان مثقفا مرموقا وسفيرا مهما فى بلاط الملك المزواج «هنرى الثامن» وقد وصل هو الآخر إلى المقصلة لأنه رفض أن يستغل تأثيره الواسع على رجال الدين والسياسة لتحقيق مآرب الملك غير المشروعة. وكما رفض سقراط المنفى مفضلا عليه الموت، رفض مور المنفى أيضا وفضل عليه الموت. لذلك ظلت تلك الأنماط البشرية الاستثنائية نموذجا ملهما لكل الباحثين عن قيمٍ بددها استبداد المستبدين. ومع ذلك ظلت مدن سقراط والفارابى وتوماس مور بعيدة المنال، لأنها ظلت نموذجا رسوليا لعدالة مطلقة سيصنعها فى النهاية بشر لا يمثلون إلا حكمتهم الناقصة. وقد ظلت لغة أهل تلك المدن لغة سماوية تسامت حتى باتت مفارقة وغريبة عن حياة البشر، ومن ثم بقيت نموذجا للتعالى والانعزالية التى مارسها مفكرون كبار تجاه أزمات وجودية عميقة غيرت حياة البشر عبر تاريخ طويل لم تَبْلَ فيه أسطورتها ولم تَزَغ فيه قيمتها ، رغم أنها ظلت فكرة غير قابلة للتحقق على أى نحو. وقد صنّف كثير من الفلاسفة تلك الدولة على أنها دولة «أخلاقية» غير قابلة للحياة، باعتبارها النقيض المطلق لما يسمى الدولة الواقعية أو الموضوعية. ولم ينل الأمر بحثا كبيرا لاسيما إذا ما وضعنا ذلك النموذج المخملى للمدينة الفاضلة فى مواجهة التحولات الرهيبة والمتسارعة التى لحقت بمفهوم الدولة على مدى القرنين الماضيين. ولأن نموذج الدولة الواقعية كان الأقرب إلى التحقق بين أيدى الناس فقد آمنوا به ودافعوا عنه بما امتلك من الحد الأدنى للمشروعية عبر تحقيق العدالة والأمن وأوجه الرعاية المختلفة، وهى الصورة التى خلقت فى النهاية ما يسمى توافقات الفضاء العام حول فكرة الدولة. وعندما يتأمل المرء المفاهيم الحاكمة لفكرة الدولة فى ذهنية قطاع ليس هينا من النخبة المصرية بعد الخامس والعشرين من يناير سيجد أنها أصبحت مذبحا ومبكى لمجموعة من أرامل تلك الدولة «الأخلاقية». حيث أصبحت الدولة فى أذهانهم حالة متخيلة كأنها منفصلة عن واقع كابوسى شاركوا فى صنعه قبل وبعد الثورتين، وهو اعتقاد عزز مساحات التباعد بينهم وبين الجماهير التى كانت تنتظر من نخبتها طوق نجاة. وبدا الموقف فى جملته تعبيرا عن هوس لا يمنح صاحبه موقعا فى مراتب الثوريين، قدر ما يمنحه موقعا متقدما فى طابور أهل الغفلة. لقد سمعنا أحاديث فضفاضة تكتظ بالرطان عن الدولة الأخلاقية. فهل هناك فعلا دولة أخلاقية؟ الرأى عند مؤسسى فكرة الدولة أنها كيان موضوعى لا يمكن وصمه بالخير أو الشر. فالدولة سابقة على أفكار الحالمين عنها، والبشر يدركون معنى الدولة عبر الممارسة لا عبر تنظيرات المنظرين وأفكار المفكرين، وإلا كيف يمكننا أن نتفهم موقف الملايين الذين يحققون وجود الدولة بامتثالهم الدائم لنواهيها؟ الدولة الواقعية تدرك أنها تخطئ، لذلك فقد اعتمدت الثواب والعقاب عبر عشرات الروادع التى ارتضتها الجماعة البشرية، من ثم فإن من يطالبون الدولة بأن تكون كيانا متطهرا ومقدسا ليسوا أكثر من متهوسين وأدعياء لأنهم سيكونون أول من يسعى لاختراق طهرانيتها تحت عشرات الدعاوي. وقد رأينا كيف أن طريق الفوضى والحروب الأهلية يبدأ بالمطالبة بدولة متطهرة وأخلاقية. ولأن التمسك بفكرة قداسة الدولة وطهرانيتها هنا يمثل معنى «دينيا» بامتياز فقد بدا موقف المطالبين بها أقرب إلى تصور جماعات الإسلام السياسى الذين يتحدثون عن دولة الرفاه والكفاية السلطانية حيث يقوم على العدل فيها أحد المعصومين . لذلك فإن أخطر ما فى الدولة الأخلاقية أنها دولة العقل الموحد، من ثم فهى لا تقبل الآخر ولا تقبل باختلافه، ومن ثم تتحول إلى دولة إقصائية. لقد تحدث مفكرون عرب، محسوبون على ما يسمى اليسار الإسلامى، عن الدولة الأخلاقية مثل «عبدالله العروى» الذى توافق فى طرحه مع الرواقيين ومع فقهاء الإسلام ، فكان من الطبيعى أن تقوم أطروحته على ثنائيات ضد العقل الموضوعى ، حيث تحدث عن دولة النبلاء ودولة الأوباش، دولة المتطهرين ودولة الأنجاس، وهى مفارقة يقول عنها إنها أبلغ تعبير عن تَسَاكُن السلطة كواقع مع الخلافة كهدف نبوي. فسبحان من جعل الدولة الأخلاقية وطنا للقتلة والأنبياء فى آن؟ فى النهاية لا أعرف إذا كان ما قدمت هنا يمكن له أن يبرهن على شيء فى رأس من يأكلون لحم مصر بشعاراتهم التطهرية الكاذبة ؟!. لمزيد من مقالات محمود قرنى