«عندما رأيت سقراط لأول مرة، ظننت أنه أقبح صبى فى أثينا. كانت المادة التى صيغ منها أكثر خشونة من المادة التى صيغ منها غيره من الأطفال . عيناه تجحظان كعينى ضفدعة.. وشفتاه غليظتان.. وكانوا يسمونه فى المدرسة “وجه الضفدع”.. وقبل أن يتعلم المزاح بشأن خلقته كان كثيرا ما يتشاجر بسببها مع الصبية» . هكذا يصف أقريطون صديقه سقراط، ذلك الرجل الذى سيصبح من أشهر الفلاسفة فى التاريخ دون أن تكون فى بوكير حياته أى دلالة على ذلك .. فهو صبى قبيح الوجه .. أمه تعمل قابلة “داية”.. ووالده صانع للتماثيل.. وانجباه عام 470 ق. م.
ترك سقراط المدرسة- كما تقول كورا ميسن مؤلفة كتاب “سقراط الرجل الذى جرؤ على السؤال”- وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بعد أن أخرجه ابوه منها .غير أن سقراط كان يعرف كيف يتعلم، لا من المتعلمين فحسب وإنما من كل إنسان يقابله.. وكيف لا يكون هكذا وهو الذى سيشغل الدنيا بالسؤال .
سأل سقراط اباه : كيف عرف طريقه للنحت فقال الأب: عليك أن ترى الأسد كامنا فى الحجر، وتحس بأنه رابض هناك تحت السطح، وعليك أن تطلق سراحه فقط . وسأل أمه كيف اشتهرت بتوليد الحبالى فأجابته: إننى لا أفعل شيئا، وإنما أكتفى بأن أعين الطفل على الانطلاق. وأثار سقراط ذلك.. فمن ذا الذى يعرف كم فكرة هناك تنتظر الانطلاق؟ لو تعلمت كيف تسأل السؤال الصحيح لاستطعت أن تحررهذه الافكار.
عاش سقراط حياة تشبه كل مواطنى ذلك الزمن فى اثينا، فالتحق بالجيش.. وكان جنديا شجاعا.. ولا يكترث ببرد أو جوع أو طول مسير. وعمل فى النحت مع والده فترة لكنه لم يستمر، وقرر أن يتفرغ لرسالته، فانزعجت لذلك زوجته “زانثب” وقالت إن العيش كان يمكن أن يكون أفضل لو أن زوجها كان عاقلا كغيره من الناس . لكن ماذا تفعل وزوجها يقول إنه صاحب رسالة ، وإنه شوكة حادة أرسلتها الآلهة لتخز المدينة، وطبيبا يولد أفكار غيره من الناس كما تولد أمه الأطفال؟
غير أن هذا لا يعنى ان سقراط كان يعيش بطريقة شاذة، كلا، لقد كان رجلا عاديا، يطوف بشوارع أثينا، يحيا حياتها، ويتفكه، ويداعب، ويستمع، ويتعرف، على اسم كل من فيها، شغوفا بكل أخبارها . كان سقراط فى نحو التاسعة والثلاثين عندما نشبت الحرب بين اثينا و أسبرطه، وكان فى نحو السادسة والستين عندما انتهت، وكابد مع زوجته وأولاده “ثلاثة أولاد “ شظف العيش خلال الحرب، والطاعون والمجاعة، بعد أن تبدلت أخلاق الناس، خاصة بعد أن قال السوفسطائيون إن القواعد القديمة التى تتعلق بالحق والباطل سنها رجال جبناء فى الماضى، ولا يمكن لرجل قوى أن يتقيد بها .
وخاض سقراط معركة شديدة ضد السوفسطائيين وكان سلاحه السؤال .. سأل السوفسطائى ثراسيماكس الذى كان يفخر بقوله” الشر أقوى من الخير”: هل فكرت مرة يا ثراسيماكس فيما يمسك الناس بعضهم عن بعض، وهل تستطيع حتى ثلة من اللصوص أن تبقى قوية موحدة إلا إن كان لديهم شئ من العدالة فيما بينهم ؟ كان سقراط يقود حربا على عدة جبهات.. حرب ضد الجهل والخرافة وسوء الأخلاق.. كما يتصدى للسوفسطائيين الذين يتخذون من الجدل حرفة لتضليل الشباب.
وحدث بعد أن انتهت الحرب وهُزمت أثينا من أسبرطه،أن حكمت حكومة الثلاثين حكما ديكتاتوريا.. فكانت تقتل خصومها السياسيين، ورجالا لا يعملون بالسياسة ولكنهم أغنياء. وطلبت هذه الحكومة من سقراط وآخرين أن يقبضوا على رجل ما ، وعرف سقراط أن الرجل سياسى معارض وفوق ذلك غني، وأنهم يريدون قتله، فرفض الطلب وتوجه إلى منزله وتوقع القبض عليه بين لحظة وأخرى .. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث .
واستطاع الديمقراطيون المنفيون أن يحاربوا ويعودوا الى حكم أثينا مرة أخرى، ولا بد أن سقراط فرح بذلك، ولكن المفاجأة أن هؤلاء هم الذين قدموه للمحاكمة بتهمة إفساد عقول الشباب رغم رفضه القبض على أحد قادتهم عندما كانوا منفيين مطرودين . وأقتيد سقراط إلى المحاكمة.. وهناك دافع عن نفسه بثبات يليق بفيلسوف، وثقة تليق بأصحاب الرسالات قائلا: يا رجال اثينا.. لست أعرف كيف أحسستم حينما كان متهمىّ يتكلمون.. لقد كانوا يبعثون على الإقناع، وأوشكوا أن ينسوا من أكون، رغم أنهم لم يتكلموا بكلمة واحدة من الحق. إنى أحبكم ورغم هذا سأطيع الآلهة بدلا من أن اطيعكم ما دام فى صدرى نفس يتردد، وفى قلبى قوة فلن أكف عن ممارسة الفلسفة، وسوف اشجع كل رجل على الحقيقة والخير، سواء لدى أن تطلقوا سراحى أو لا تطلقوه فلن تغيروا موقفى حتى لو حكمتم على بالموت عدة مرات ! غضبت المحكمة من مرافعته وحكمت عليه بالموت.. وكان يمكن للمحكمة أن تقبل نفيه لو طلب سقراط ذلك، لكنه عندما تحدث مرة أخرى طلب من المحكمة أن يقدموا له الطعام بغير مقابل فى ملجأ المدينة بقية حياته مثلما يكافئون الظافرين فى الألعاب.. وقد فعلت لأثينا أكثر جدا من أن أفوز فى سباق.. ثم إنى فوق ذلك رجل فقير فى حاجة الى معونتكم كى اواصل عونى لكم . وقد جعلت هذه الكلمات الساخرة موته أكيدا .. وفعلا حكموا بموته. ورفض أن يهرب كما عرض عليه اصدقاؤه وقال لابد أن أحترم قوانين اثينا والشر لا يرد عليه بالشر.وجاء السجان وقدم له كأس السم فقال أدعو الآلهة أن تكون الرحلة من هنا إلى هناك رحلة سعيدة، ورفع الكأس وشرب ما بها، وعندما اطلق احد تلاميذه صرخة عظيمة أوقفه سقراط وقال: لقد سمعت ان الرجل ينبغى أن يموت فى صمت فالزموا السكوت وتمسكوا بالصبر. إنها نهاية تليق برجل كان يبحث عن الخير دائما حتى فى موته .
الكتاب: سقراط الرجل الذى جرؤ على السؤال المؤلفة: كورا ميسن المترجم: محمود محمود الناشر: مكتبة الأسرة 2013