بروز الفاعلون الجهاديون عبر اتجاهات مختلفة ومحاور متباينة على مستوى الإقليم يمثل السمة الغالبة على الاتجاهات العامة السائدة بصراعات ما بعد الثورات والتى تشكل خرائط معقدة لأحزمة جهادية تنطوى على دوائر متشابكة وحلقات تطرف محيطة بالدول وعبر حدودها والإقليم تعتمد على توسيع نطاقات نفوذها المتدخلة وساحات سيطرتها الجغرافية دائمة التبدل على تكتيكات الحروب غير المتماثلة. وتعكس سيادة منطق غابة الجهاد، التى تقوم على صراعات متعددة الجبهات والأطراف والمستويات، البقاء فيها للأقوى وفق قدرات بشرية ومادية وتسليحية وتكتيكية. خرائط هذه الغابة وأحزمتها الجغرافية تنتشر بطول الإقليم وعرضه، ولها تمركزات رئيسية بالعديد من دول المنطقة، وتتفرع منها تشكيلات وجماعات مبايعة فى الدوائر الجغرافية المحيطة تقدم إليها وتتلقى منها الدعم والمساندة أكانت قتالية أو تسليحية. سيطرت هذه الظواهر الجهادية على الإقليم، ولم يعد هناك دولة بمنأى عن عملياتها أو الوقوع تحت نفوذها، وبينما تسعى أغلب الدول للعمل على مواجهتها بأساليب متنوعة، فإن الإقليم يشهد بالتوازى المزيد من التمدد الجهادي، ف «تنظيم «داعش» رغم الضربات الجوية استطاع أن يسيطر على أكبر مربع سكانى سنى يصل سوريابالعراق بعد دخوله مدينة تدمر السورية التى تقع على طريق العاصمة دمشق وتفتح ممرات الجهاد أمامه تجاه حمص والجنوب السوري، وكذلك مدينة الرمادي، عاصمة الأنبار كبرى المحافظاتالعراقية، التى تمتد لحدود العراقالغربية مع كل من الأردنوسوريا، ترافق ذلك مع تمدد لافت على الساحة الليبية بعد السيطرة شبه كاملة على مدينة سرت، التى ستشكل مركز عملياته على غرار الرقة فى سوريا والفلوجة فى العراق. حدود الدم هذه التطورات جعلت من حدود خرائط الجهاد واضحة مع توارى حدود الوزيرين سايكس وبيكو، بفعل توسعات داعش، الذى بات يشكل اللاعب الأبرز ضمن فاعلين جهاديين عديدين يصل عددهم بضعة آلاف، دون مبالغة. ومع تراجع تنظيم القاعدة نسبيا لصالح صعود أدوار تنظيم داعش، بات العديد من التنظيمات الأخرى المرتبطة فكريا دون إطار تنظيمى مدفعون للتحالف المرن حتى لا يأكلون من قبل حيتان التطرف الكبرى، برز ذلك فى حالة تنظيم جيش الفتح فى سوريا الذى سيطر مؤخرا على مدينتى أدلب وجسر الشغور، بعد أن تشكل من تحالف العديد من التنظيمات الجهادية المحلية فى سوريا على رأسها جبهة النصرة التى ترتبط بتنظيم القاعدة. ساحات الجوار ليست خالية بدورها من مجموعات مختلفة من قوى التطرف التى تتدرج قواتها ونفوذها وشدة عملياتها، ففى اليمن يشكل «تنظيم القاعدة فى اليمن» أحد أقوى الفاعلين الجهاديين فى الإقليم، وفى المملكة العربية السعودية برزت مؤخرا بصمات تنظيم داعش والقاعدة فى شبه الجزيرة العربية، وفى المغرب العربى مازال حاضرا تنظيم «القاعدة فى بلاد المغرب العربي»، الذى يتزعمه عبد الملك درودكال الملقب ب «أبى مصعب عبد الودود»، ويتمركز فى الجزائر التى تشكل نقطة انطلاق عملياته لكل من المغرب وموريتانيا ومالي، وهناك أيضا «تنظيم جند الخلافة» الذى انشق عنه وأعلن مبايعته ل «داعش»، وفى الجوار التونسى هناك تنظيم «أنصار الشريعة» متعدد الفروع الليبية واليمنية والمغربية، وهناك كذلك حركة «الموقعون بالدماء» بقيادة مختار بلمختار المنشق عن تنظيم القاعدة فى المغرب العربي، فى عام 2012، وينشط على الجبهة الجنوبية بكل من مالى والنيجر. وتبرز فى ليبيا أيضا «الجماعة الإسلامية المقاتلة» التى تقود قوات «فجر ليبيا». هذا إضافة إلى التنظيمات المحلية العديدة التى أعلنت تأييدها لداعش مثل لواء «أحرار السنة» فى لبنان وتنظيم «مجلس شورى أنصار الشريعة» بالأردن، بالإضافة إلى تنظيم «بيت المقدس» الذى غير أسمه إلى «ولاية سيناء» وبايع داعش رغم الخلاف حول ذلك بين عناصره، وذلك بهدف البقاء وتلقى الدعم والمساندة من التنظيم الأم فى العراقوسوريا، إضافة إلى جماعة «أنصار الإسلام» بغزة. أحزمة الجهاد الإقليمية محاطة بأحزمة أخرى مرتبطة بها مثل جماعة «التوحيد والجهاد» وحركة شباب المجاهدين فى الصومال، وبوكو حرام فى نيجيريا، وأعلن الأخير بدوره مبايعته لتنظيم «داعش» أملا فى مدد عسكرى وتسليحى يساعده على البقاء ضمن ساحات الجهاد المتمدد. حرب الجميع ضد الجميع المعادلة الحاكمة للغابة الجهادية فى الإقليم هى حرب الجميع ضد الجميع فثمة مواجهات متعددة ونمط تحالف عابر للحدود بين جماعات جهادية وأخرى، وبين بعض من هذه الجماعات ودول إقليمية. هذه المعادلة ليس لأطرافها لون طائفى أو دينى أو عرقى واحد، ولكن ألوان عديدة تتصارع فيما بينهما، لتنشر عناصرها على المزيد من الساحات الجغرافية، وهى فى ذلك تتصف بعدد من السمات: (*) الأحزمة الجهادية: حيث توجد العديد من الجماعات الجهادية فى مناطق الحدود الرخوة والتى باتت تشكل أحد أهم محركات قوة التيارات الجهادية، حيث تتخذ منها مركزا لتوسيع نطاق عملياتها العابرة للحدود إلى عمق دول الإقليم، معتمدة فى ذلك على آليات تجارية شرعنة اقتصاديات الفعل الجهادي، حيث تجارة البترول والسلاح والآثار والسلع والبضائع والرهائن والأعضاء البشرية، ليتبلور هيكل تمويلى ذاتى سمح للبعض منها بإعلان إمارات ودوليات عابرة للحدود، فى مساحات جغرافية شاسعة تتحكم فى نطاقها المتبدل باستمرار عمليات المواجهة مع دول وتنظيمات مماثلة فكرا أو مغايرة من حيث الطائفة. (*) التشبيك الجهادي: يعد التنافس الجهادى السمة الغالبة على علاقات التنظيمات المتطرفة فى الإقليم على نحو جعل أغلب تمددات بعض الجماعات الجهادية تأتى على حساب جماعات مشابهة فى التفكير والأدوات، غير أن هذا التنافس دفع على جانب آخر بنمط من أنماط التعاون أو التشبيك الجهادى بين بعض الجماعات سواء كانت جماعات عابرة للحدود كما فى حالة داعش والتى بايعتها العديد من الجماعات الجهادية الأخرى فى الإقليم، أو الجماعات المحلية كما فى حالة جبهة النصرة التى تحالفت معها العديد من الجماعات الجهادية الأخرى على الساحة السورية. كما يتضح ذلك أيضا فى ارتباط تنظيم «المرابطون» ببعض تنظيمات السلفية الجهادية فى الجزائر منذ الهجوم المشترك على منجم عين أميناس فى صحراء الجزائر، وفى تنسيق فروع تنظيم أنصار الشريعة بتونس وليبيا والمغرب. (*) السيولة الشديدة: ثمة عمليات ديناميكية للتفكك والاندماج فى أوساط الجماعات الجهادية، وذلك فى ظل سيطرة منطق البقاء للأقوى، وسيادة قوانين الغابة، بما دفع بظهور واختفاء العديد من الجماعات الجهادية وانضمام عناصر إلى جماعات أخرى أكثر قوة وحضورا كما حدث فى حالة داعش بعد إعلان «دولة الخلافة». كما برز نمط من التحالفات بين التنظيمات متباينة التوجهات فى تحالفات مرنة غير تقليدية، وذلك من أجل حماية عناصرها وتوسيع مناطق نفوذها. (*) الأسراب الهائمة: يعانى الإقليم من انتشار أنماط جديدة من الخلايا العنقودية اللامركزية لجماعات ومجموعات صغيرة بلا قيادة مركزية فيما يطلق عليه «الذئاب المنفردة» التى تؤمن بالفكر التكفيري. ونشطت هذه الجماعات مؤخرا بسبب حالة الفوضى الأمنية التى يعانى منها أغلب دول الإقليم، وهذه المجموعات تطلق عليها بعض الاتجاهات الأسراب الهائمة Swarming Birds، أو الجيوش الإرهابية الصغيرة أو الإرهابيين بدون قيادة. (*) التكتيكات الهجينة: تتعدد مستويات العنف الجهادي، حيث «العنف الاحترافي» الذى تمارسه التنظيمات المتطرفة التى تخوض مواجهات هجينة من العمليات العسكرية النظامية والحروب والمواجهات غير المتكافئة وفق إستراتيجيات حروب العصابات والتى ترتبط بعناصر بعضها يرتبط بجماعات إرهابية وتحظى فى نفس الوقت بخلفيات عسكرية نظامية كحالة التزاوج بين التمرد البعثى مع الإرهاب القاعدى فى العراق والذى أنتج أشد التنظيمات وحشية. وذلك فى مواجهة «الإرهاب البدائي» الذى يرتبط بجماعات إرهابية صغيرة تستخدم أدوات بدائية تحدث أثرا معنويا فى بعض الحالات أكثر مما تسفر عن خسائر مادية كبرى، ويكون هدفها ديمومة حالة عدم الاستقرار الأمنى وأضعاف الأنظمة الحاكمة والتأثير سلبا على الحالة المعنوية العامة وإشاعة اليأس فى صفوف المواطنين. وبين مستويى العنف الاحترافى والبدائى توجد جماعات عنف وسيطة، تتدرج قدراتها وإمكانيتها. وفى مختلف الحالات فإن أغلب هذه التنظيمات تلجأ إلى إستراتيجيات الحروب الخاطفة وتكتيكات التكيف مع الظروف سريعة التغير. (*) المقاتلون المتعددون الجنسيات: كان النمط السائد أن ثمة جماعات إرهابية تستهدف مصالح غربية فى الإقليم وخارجه، غير أن السمة الغالبة لغابة الجهاد الإقليمية باتت ترتبط ببروز نمط من الإرهاب متعدد الجنسيات والثقافات واللغات، حيث ثمة نزوح إرهابى خارجى إلى الإقليم من قبل عناصر إرهابية دولية من دول آسيوية وأفريقية وغربية، وذلك للانضواء فى صفوف جماعات إرهابية محلية وإقليمية، وقد ترافق مع ذلك تصاعد توظيف النساء والأطفال فى العمليات الإرهابية، والكثير من هؤلاء يأتون من بلدان غربية، وليس حصرا من بلدان عربية وإسلامية. عوامل متداخلة وتجدر الإشارة إلى أن هناك مجموعة من أسباب التمدد الجهادى فى الإقليم، التى تتمثل فيما يلي: (*) القابلية للاختراق: أدت عوامل الهشاشة الأمنية التى عانت منها دول الإقليم فى مرحلة ما بعد الثورات إلى تشكل أوضاع أمنية ساهمت فى تحفيز قدرات الجماعات الجهادية التى تبنت إستراتيجيات المواجهة للسيطرة على العديد من المناطق التى عانت من ضعف القبضة الأمنية، هذا فى الوقت الذى تصاعدت فيه قدرات الجماعات الجهادية إما بفعل اختراقها من قبل أجهزة استخبارات دولية وإقليمية دعمتها، أو بسبب مخازن الأسلحة ومستودعات العتاد التى سيطرت عليها خصوصا فى كل من سورياوالعراق وليبيا واليمن، أو بسبب ضعف المواجهة الأمنية من قبل القوى الإقليمية والدولية التى بدت توجهاتها متعارضة ومصالحها متضاربة، وثمة صراع بالوكالة يكفى لتظل ساحات غابة الجهاد مرشحة للتوسع عبر الإقليم. (*) الحواضن المزدوجة: يحظى العديد من الجماعات الجهادية بحواضن هجينة ما بين الرسمية والشعبية والمحلية والإقليمية، وذلك لأسباب مختلفة، فبينما تحظى بعض الجماعات المتطرفة فى الإقليم كداعش والنصرة وأحرار الشام وأنصار الشريعة بدعم بعض القوى الإقليمية لأسباب تتعلق بطبيعة الصراعات ذات الصبغة الطائفية فى الإقليم- فإن الحواضن الشعبية تأتى فى كثير من الأحيان لأسباب مماثلة تتعلق بالرفض المحلى لسياسات التهميش والإقصاء على أسس طائفية كما فى حالة العراقوسوريا، هذا فيما يشكل العديد من الجماعات المحلية كالقبائل والعشائر دعما لبعض هذه الجماعات لاعتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية قد ترتبط بانخراط العديد من عناصر هذه المجموعات المحلية فى صفوف الجماعات الجهادية بما يوجد إشكاليات أمنية واجتماعية مركبة. (*) الجيوش الطائفية: انهار العديد من الجيوش العربية وضعفت منعتها وتفكك هيكلها الرئيسى وذلك لكونها جيوش أشبه بالمليشيات الطائفية التى باتت ذات لون واحد بعد مرحلة الثورات لانشقاق غالبية العناصر الهامشية من الطوائف الأخرى، بما جعل هذه الجيوش تتحالف فى كثير من الحالات مع مليشيات جهادية سنية أو شيعية، حسب ألوانها الطائفية، كما اندفعت قوى أخرى إلى دعم جماعات مليشاوية طائفية لإسقاط نظم طائفية أخرى، بما استنزف القدرات العسكرية لدول رئيسية فى الإقليم وصب لصالح الجماعات الجهادية التى باتت المستفيد الأهم من الحطب المالى والتسليحى لبقاء جذوة الصراعات الطائفية مشتعلة فى الإقليم. (*) «الضد النوعي»: حيث غياب «الضد النوعي» فى ظل الافتقاد لقوات مواجهة فى كثير من الحالات تنتمى إلى نفس المذهب، ولديها القدرة على تعبئة القدرات العسكرية والشعبية لمواجهة توسعات التنظيمات الجهادية التى تتحالف فيما بينها، مستغلة تباين أجندات القوى الإقليمية والأطراف المحلية للاستفراد بخصومها عبر إستراتيجيات إعلامية وعسكرية شديدة الاحترافية، بما أوجد «إقرار سكوتي» بالتعايش مع هذه التنظيمات أو الدفع بالدخول فى حوارات هزلية معها تستهدف شرعنة وجودها وترسيخه. صراعات استنزاف لذلك فمن المرجح أن تتفاقم الغابة الجهادية فى الإقليم ارتباطا بتورط كل الأطراف فيها والعمل بقصد أو بدونه على توافر الشروط اللازمة لاتساع رقعتها، سيما بعدما أثبتت السياسات الدولية فى الإقليم خلال السنوات الخالية أن وجود هذه الغابة يخدم مصالح قوى دولية رئيسية كونها أفضت إلى إقليم فى حالة أضعف يعوزه التماسك والتنسيق لمواجهة دويلات طائفية وعرقية وجهادية منخرطة فى صراعات تستنزف قدرات الجميع لتجعل الفعل الراشد أشبه بالتحرك على الهامش، بما يلقى بأعباء ثقيلة على الفواعل الإقليمية الراشدة.