ثمة العديد من الإشكاليات التي ترتبط بالمواجهات العسكرية الدائرة بين قوات الجيش والشرطة المصرية من ناحية والجماعات الإرهابية وعلى رأسها «تنظيم بيت المقدس» من ناحية أخرى، تتعلق بالأساس بمتغير تنامي قدرات هذه الجماعات الإرهابية لتشبه الجيوش النظامية. التي تمتلك عقيدة قتالية وعناصر ذات كفاءة تدريبية وأسلحة متطورة، وتخوض معارك غير منتظمة في صراع تحسم جولاته ب «النقاط المتتالية» وليس ب «الضربات القاضية»، لتبدو الأفضلية فيه متعلقة بالإمكانيات المعلوماتية والاستعدادات الخططية والمساندة الخارجية، لوجستيا وماليا وتسليحيا، وبالقدرة على فهم طبيعة المعركة ونقاط الضعف التي يمكن النفاذ منها، لتوجيه مسار العمليات العسكرية. القدرات والأهداف وبينما الهدف المعلن بالنسبة للدولة المصرية يتمثل فى القضاء على كافة التنظيمات الإرهابية سواء فى العمق المصرى أو بمختلف المناطق الحدودية الرخوة، فإن الهدف الأساسى لهذه الجماعات يتعلق بتوجيه ضربات مكثفة فى توقيتات «محسوبة» بدقة تجعل من القدرة الإسعافية محدودة، بما يجعلها أشبه ب «حروب استنزاف»، بين عدو يجيد التخفى والتحرك كالاشباح فى مواجهة قوة عسكرية ضخمة لكن بعض قطاعاتها وتمركزاتها مكشوفة نسبيا، وهى رغم ذلك تبتغى «الردع» والمنع الاستباقى للفعل الإرهابى فى مواجهة «لدغ» العناصر المتطرفة التى تستهدف بدورها تعطيل الاستحقاقات السياسية، فى ظل الإعداد للانتخابات البرلمانية وإفشال المسار التنموى فى ظل الإعداد للمؤتمر الاقتصادي. بالإضافة إلى النيل من هيبة الدولة، والرد على العمليات الأخيرة التى أدت إلى الإيقاع بالعديد من عناصر هذه التنظيمات وأفضت لمقتل عناصر أخرى، كما أنها تأتى بعد صدور أحكام قضائية بحق خلايا إرهابية، كخلية عرب شركس وخلية مدينة مصر، والحكم بإعدام عادل حبارة فى قضية مذبحة رفح الثانية. الحادث الإرهابى الأخير بمدينة العريش الحدودية والذى أدى لاستشهاد أكثر من 30 وإصابة ما يتجاوز ضعف هذا العدد، ومن قبل ذلك عملية «كرم القواديس»، التى راح ضحيتها ما يقرب من 33 ضابطا ومجندا، لا يشكلان معا محض مؤشر واضح للقدرة على الإيذاء، وإنما الرغبة فى استعراض هذه القدرة، وإبراز إمكانية النفاذ من الخطط التى تتبناها قوات الأمن لتضييق الخناق على عناصر التنظيم، والتى وأن تقوم بذلك فإنها تستند على محركات أساسية، أهمها تعظيم الاستفادة من عودة المقاتلين الجدد الذين انضموا للقتال من العراقوسوريا وليبيا محملين بخبرات قتالية واستعداد للقتال على الساحة المصرية، هذا بالإضافة إلى الاستفادة من دعم إقليمى غير محدود من قبل بعض الدول. وقد عبر عن ذلك مؤخرا صراحة كل من الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ووزير الداخلية محمد إبراهيم، وهو ما يعنى أن ثمة تشابكا واضحا بين ما تشهده الساحة المصرية على صعيد مواجهة تنظيمات إرهابية وما شهدته ساحات إقليمية مجاورة، بما يعنى أن دولا عربية عديدة تخوض فى توقيت متزامن صراعا مسلحا ضد تحالف الجماعات الإرهابية العابر للحدود، وبينما ينال انهيار وضعف إمكانيات بعض الدول العربية من القدرات المصرية على القضاء على التنظيمات الإرهابية، فإن تنامى قوة هذه التنظيمات على ساحات الدول الأخرى يدعم قدراتها على الساحة المصرية بالتبعية، وفق علاقة تفاعلية متبادلة. التكتيكات والإستراتيجيات تشير عمليات «تنظيم بيت المقدس» وغيرها من الجماعات الإرهابية إلى أن مصر باتت تشهد ما يشبه النموذج المستنسخ من تجارب عربية أخرى انتهت بهزيمة الجماعات الإرهابية، كما تشير إلى ذلك التجربة الجزائرية، التى توضح أن العمليات الخاطفة، وإن أحدثت خسائر كبرى غير أنها لا تحقق انتصارا حقيقيا فى نهاية الأمر، وذلك فى «صراعات صفرية»، تتخذ من المناطق الطرفية ساحة لعملياتها فى محاولة لإسقاط الدولة. يأتى ذلك عبر تكتيكات عديدة تستهدف إحداث تأثيرات كبرى سياسيا وأمنيا واقتصاديا، والاستفادة من شبكات جديدة أضحت تشكل جماعات مصالح من مهربين لأسلحة ومقاتلين ومواد وبضائع، وهو أمر يجعل الخطاب المحمل بالعواطف حيال الفاعلين المحليين الداعمين نسبيا لبعض العناصر الجهادية التابعة لهذا التنظيم فى هذه المناطق، مفتقد للفاعلية، إن توحد مضمونه مع مكنونه، كونه يعوزه إدراك نمط المصالح المتولد بين جماعات إرهابية وحاضنات شعبية ومجتمعية. قد يشكل ذلك أحد تفسيرات قدرة تنظيم «بيت المقدس» على استقطاب المتشددين المستعدين للانخراط فى الفعل الإرهابي، سيما فى ظل محاولته إثباتا دائما للقدرة على التأثير الأمنى وإحداث خسائر كبرى فى صفوف الجيش وقوات الأمن المصرية، بما يمثل دليل فاعلية، يدفع التيارات المتطرفة إلى الانضمام إلى صفوف التنظيم أو محاكاة عملياته، ولعل أبرز مثال على ذلك انضمام أعضاء من الإخوان وبعض عناصر حركة حازمون التى كانت قد جندت العديد من العناصر للقيام بعمليات عنف، إلى تنظيم بيت المقدس، وغيرها من الجماعات الجهادية فى مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو، وهى عناصر تم تدريبها على استخدام صواريخ الهاون ضد كمائن الجيش ومعسكراته ووظفت تكتيك استخدام العبوات الناسفة ضد مدرعات قوات الأمن. ويبدو أن مبايعة «التنظيم» ل «أبو بكر البغدادي» وتسميته ب «ولاية سيناء» قد ارتبطت بتحول نسبى فى تطور عملياته لتجسد نمط الإمكانيات التى بات يحظى بها سواء على مستوى المقاتلين أو التكتيكات أو المعدات والأسلحة، هذا على الرغم من أن التنظيم كان قد استبق مبايعة داعش عبر محاكاة أسلوبه وتبنى أيدلوجيته، من خلال انتهاج عمليات الذبح واستهداف المدرعات بأنظمة التفجير عن بعد واستهداف الحواجز الأمنية ذات الاستحكامات الجيدة، ومن خلال استخدام تكتيكات «حروب العصابات» وتوظيف صواريخ الهاون، التى أثبتت كفاءاتها من قبل فى مواجهة الجيش الأمريكى فى أفغانستان وبغداد وفى القتال ضد الجيش العراقى والسورى بعد ذلك، وهى صواريخ تتسم برخص سعرها وقدرتها التدميرية الهائلة، ويتم استقدامها من قطاع غزة. كما كان التطور النوعى باستخدام صواريخ «سام» التى استخدمها التنظيم فى إسقاط الطائرة المصرية، وكذلك عبر التوظيف المكثف لقذائف «آ ربى جي» التى يمتلك الآلاف منها. وعلى مستوى القيادات ربما أوضحت الأحداث الأخيرة صدقية التحذيرات التى أشارت إلى دخول بعض القيادات التكفيرية إلى الأراضى المصرية، ومنها قيادى يكنى بأبى حمزة المهاجر، استطاع الوصول إلى سيناء بعد أن ذاعت شهرته فى تصنيع القنابل والمتفجرات فى العراق، وهو من مواليد محافظة سوهاج ومن تلاميذ أيمن الظواهرى. وقد يرتبط ذلك بتصريح القيادى بتنظم داعش أبو محمد المقدسى الذى دعا فيه أنصار بيت المقدس إلى نقل عملياتها للعاصمة المصرية. وتدل العملية الأخيرة إلى اشتراك عسكريين محترفين خاضوا معارك كثيرة، ولديهم خبرة ودراية عسكرية وليس مجرد مقاتلين تدربوا على الأسلحة والقتال. المقاتلون الأجانب وعلى الرغم من أن غالبية هذه العناصر من المصريين، إلا أن التنظيم يشمل أيضا عناصر من جنسيات أخرى، وقد زاد حضور هذه العناصر بعد إعلان ولاء «بيت المقدس» لتنظيم داعش. وقد تلقت عناصره تدريبات فى قطاع غزة على استخدام قذائف الهاون تحت إشراف عناصر من كتائب القسام، إضافة إلى مجموعة أخرى تم تدريبها فى ليبيا، فى أحد المعسكرات التابعة للجهاديين فى «درنة». كما تشير تكتيكات التنظيم إلى فكرة «التخصص القتالي» فالعناصر التى تلقت تدريبات فى سوريا، انقسمت إلى مجموعات تدرب بعضها على عمليات جمع المعلومات والمراقبة، بجانب مجموعات أخرى تدربت على التنفيذ. وثمة عناصر من تنظيم داعش انتقلت لسيناء للإشراف على تنفيذ العمليات الإرهابية. ترتب على ذلك القدرة على خطف ضابط مصرى فى وضح النهار (11 يناير الماضي) وإقامة كمائن على الطرق السريعة بين رفح والعريش واستهداف الكتيبة 101، والتى تعد أهم موقع أمنى فى شمال سيناء فى منطقة محصنة تشمل مقارا أخرى مثل مقر قيادة شرطة العريش ومقر الاستخبارات العسكرية، وهى منطقة مغلقة أمنيا ومقصور الدخول فيها على العسكريين. ومن حيث تكتيكات تنفيذ العمليات الإرهابية، يعتمد التنظيم على العمليات ذات الطبيعة المركبة والتى تتحدد طبيعتها وفق الهدف منها، إن كانت عمليات خطف أو استهداف مجندين عائدين من معسكراتهم أو كمائن للجيش (ثابتة/ متحركة) أو دوريات عسكرية أو مقرات أمنية، وذلك عبر وسائل عديدة منها توظيف إصدارات مختلفة من الصواريخ وزرع عبوات ناسفة واستخدام سيارات مفخخة، فضلا عن انتهاج إستراتيجية قطع الرؤوس، وفى بعض الحالات إتباع أكثر من تكتيك لتنفيذ عملية إرهابية. مسارات متوازية ففى أحداث العريش الأخيرة لأول مرة يتم عبر مسارات متوازية استخدام صواريخ موجهة وقذائف بعيدة المدى وسيارات مفخخة استهدفت عدة مواقع فى توقيتات متزامنة، ارتبطت من ناحية بتوقيت مباراة كرة قدم بين قطبى الكرة المصرية (الأهلى والزمالك)، ومن ناحية أخرى بوجود الرئيس عبدالفتاح السيسى خارج البلاد، بما من شأنه أن يهز الثقة فى القدرات الأمنية وصورة الدولة فى الخارج، ومن ناحية ثالثة استغلال ما قد يعتبر استرخاء أمنيا بعد النجاح فى مواجهة تصعيد جماعة الإخوان فى الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، فضلا عن التوظيف العكسى للثقة التى نتجت على النجاحات الأمنية المصرية فى توجيه ضربات إلى عناصر تابعه للتنظيم. ويبدو فى ذلك أن الإستراتيجية الأساسية التى تقف وراء هذه التكتيكات تتمثل فى «عمليات أقل ودموية أكثر»، ثم الاستعداد لامتصاص الصدمات أو الضربات الموجعة مع البدء فى التخطيط لعمليات جديدة، يبدو من المرجح أن تسعى خلال الفترة المقبلة لأن تكون فى العمق المصري، فى محاولة لتشتيت الانتباه والحيلولة دون قدرة الأجهزة الأمنية على التقاط الأنفاس، هذا بالترافق مع الاستمرار فى إتباع تكتيك التخفى داخل المناطق المأهولة مع استمرار تمركز قيادات التنظيم فى المناطق الوعرة فى الكهوف وجبل الحلال وفى القرى المتناثرة عند سفوح بعض الجبال. منهج مزدوج وفى هذا الإطار من المرجح أن يستمر التنظيم فى إتباع منهج مزدوج يركز على الاندماج واستغلال غضب القبائل المحلية تجاه السياسات الحكومية وكذلك فى ترهيب من يرفضون قبول وجود التنظيم أو يشكون فى تعاونه مع الجيش، وذلك بعد تأسيس جناح استخباراتى هدفه جمع المعلومات عن أبناء القبائل غير الداعمين لهم وكذلك ممن يمدون الجيش بالمعلومات. هذا مع استغلال تحول كل سيناء إلى مخزن ضخم للسلاح فى ظل استمرار العمل بخط تجارة السلاح الإقليمى «ليبيا – قطاع غزة» عبر الأراضى المصرية. إن الرصد الدقيق لمذبحة رفح الأولى والثانية ومذبحة الشيخ زويد، وتفجير مبنى مديريتى أمن القاهرة والدقهلية ومبنى المخابرات فى الإسماعيلية وبلبيس والهجوم على كمين الفرافرة وصولا لأحداث العريش، يكشف أن عمليات التنظيم شهدت تطورات مستمرة من حيث التخطيط والتنفيذ، وهو الأمر الذى ارتبط فى أحد جوانبها بالقدرة على المباغتة بعد المراقبة الدقيقة بواسطة عناصر مغايرة لتلك المنوط بها تنفيذ العمليات الإرهابية. إن تنامى قدرة تنظيم بيت المقدس تعنى إمكانية قيامه بعمليات خارج حدود سيناء ومد جماعات أخرى بخبرات أكبر، وهو ما وضح من المعطيات السابقة وكذلك من استخدام سيارة مفخخة بالقرب من دار القضاء العالى فى ديسمبر الماضي، وأسفرت عن 11 مصابا، وقد يضاعف ذلك من مخاطر تزايد الاحتمالات بعمليات قد تجرى بعيدا عن القاهرة والإسكندرية، خصوصا أن للتنظيم شبكة مسلحة فى مدن عديدة وما هو يشير إليه اعتقال بعض عناصره فى مدن كالقاهرة والسويس والإسماعيلية، بما من شأنه أن يستدعى رفع درجة التأهب الأمنى فى عام 2015.