لا تزال موجات الهجرة غير الشرعية مستمرة من سواحل جنوب البحر المتوسط إلى بلدان شماله. وهي موجات هجرة حديثة نسبيا إذا ما قارناها بموجات الهجرة الكبرى التي نظمتها الدول أو تجارها إلى الأرض الأمريكية او أستراليا على سبيل المثال. فالهجرة الإنسانية من بلد المولد إلى بلدان جديدة بحثا عن مستقبل جديد حقيقة قديمة قدم الإنسانية ذاتها قبل أن توجد الدول بحدودها ونظمها وقوانينها. في الولاياتالمتحدةالأمريكية يفخرون بأنهم بلد المهاجرين الذين يستطيعون التوحد في بوتقة اجتماعية واحدة تسعى إلى تحقيق الحلم الأمريكي. وحتى الآن تنظم الولاياتالمتحدةالأمريكية استقبال 250 ألف مهاجر سنويا من البلدان والديانات المختلفة حسب قواعد ومواصفات تضعها الدولة ذاتها.أما أستراليا، فقد بدأ تكوينها الحديث على يد الإنجليز المدانين في ارتكاب الجرائم الكبرى (convicts) الذين لم تتسع لهم سجون بلاد الإنجليز، فرُحلوا جبرا وقسرا إلى شواطئ أستراليا المكتشفة والنائية وليعمروها بدلا من وضعهم في زنازين تتحَمُل الدولة تكاليف حراستهم ومعيشتهم وكذلك ضمانا لعدم عودتهم إلى أرض الوطن. هذا ما نعرفه عن تاريخ تلك البلدان التي تقود العالم منذ فترة وحتى الآن. وحتى في تاريخنا الأقرب البادئ من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما خرجت بلدان القارة الأوروبية وقد تحطمت مؤسساتها ومنشآتها وبيوتها، فقد استعانت بالمال الأمريكي المعروف بمشروع مارشال وبالسواعد الشبابية من كل البلدان لإعادة تعميرها. ويجب ألا نعبر على مرحلة السبعينيات من القرن الماضي دون أن نتذكر موجات الهجرة العربية لبلدان منابع النفط التي استمرت لعقد كامل من الزمان تكونت خلالها سوق عمل عربية غير مسبوقة تاريخيا.. فالهجرة الإنسانية من حقائق الحياة طالما أراد الإنسان الانتقال والترحل سعيا لحلم قد يحققه وقد لا يحققه. سواء كانت هذه الهجرة مؤقتة أو دائمة. ولكنها تستمر حقيقة إنسانية. ولكن تغيرت الظروف والاحوال وسياسات الدول التي كانت في البداية هي المنظمة للهجرة وباتت الآن تعقد المؤتمرات وترسم الخطط وتنشر السفن لمنع هذه الهجرة. فماذا حدث؟ لقد بدأت أولى الحساسيات الأوروبية تجاه العمالة المهاجرة في بلدان الجنوب الفرنسي مع بدايات العقد السبعيني من القرن الماضي. وكانت مدينة مارسيليا أولى ساحات هذه الاحتكاكات بين العمال المهاجرين من الشمال الإفريقي بسبب التفرقة في فرص العمل ونوعياتها وأجورها وإحساسهم الدفين بأن وجودهم لم يعد مرغوبا فيه خاصة بعد انتهاء البناء التنموي الأوروبي الذي أسهم في إنجازه هؤلاء المهاجرون. لم يعودوا يجدون من فرص للعمل إلا تلك التي لا يقبلها العمال الأصليون. وبدأ حصارهم في الأعمال الأقل قيمة اجتماعيا وماديا، ومع بدايات الثمانينيات من القرن الماضي بدأ تدشين ما سميناه النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي حدد ثلاث دعائم وأسس لنشاطه «حرية حركة وانتقال الأموال والسلع والأفراد». وقدم مفكرو واقتصاديو هذا النظام لشعوب العالم وخاصة شعوب العالم النامي هذه الأسس الثلاثة صفقة واحدة لا تتجزأ. وإتضح فيما بعد أنه كان لهذه الصفقة شروطها الاجتماعية. ومن بدايات هذه الشروط وأهمها تراجع الدور الاقتصادي للدولة في الإنتاج وفي الخدمات. وهو الدور الذي كانت تقوم به الدول في البلدان الساعية لتحقيق درجة من الحقوق الإنسانية لشعوبها في مرحلة ما بعد استقلالها، كما أنه الدور الذي لم تستطع الرأسمالية المحلية القيام به في هذه البلدان لضعفها المالي والتقني. بالمعنى الذي نعرفه وباللغة الدارجة كان المطلوب «خصخصة» هذه المؤسسات الانتاجية او الخدمية التي تمتلكها الدولة ثم إتاحتها للاستثمار الخاص. وبالفعل وتحت الضغوط المؤسسية الدولية بدأت دول هذه البلدان النامية تنسحب من التخطيط والاستثمار الذي كان يمتص جانبا من البطالة ويبنى اقتصادا ويؤسس لخدمات أساسية يحتاجها المواطنون والمواطنات. يمكن الحديث عن سوء التخطيط أو الفساد ولكن لا يمكن إغفال الدور الأساسي الذي لعبته هذه الدول في مواجهة جانب من الاحتياجات الملحة لشعوبها. وقد استمروا لعقدين زمنيين يتفاخرون بما سموه القفزات الاقتصادية الهائلة التي أحدثتها «حرية انتقال السلع والأموال والأفراد» في بلدان جنوب شرق آسيا والتي أخرجت بلدان النمور الآسيوية من تخلفها العظيم إلى تقدمها الأعظم.. لقد حدثت طفرات في تلك البلدان، ولكنها لم تكن بعيدة عن التخطيط السياسي الذي هدف إلى إنعاش جوار رأسمالي على الحدود الجنوبية للصين والاتحاد السوفيتي القديم. لم تكن هذه الطفرة خارج إطار حساباتهم السياسية. وإذا عدنا إلى دعائم وأسس نشاطهم الذي روجوا له وهو «حرية حركة وانتقال الأموال والسلع والأفراد» فإنهم في حقيقة الأمر لم يلتزموا في أفعالهم بما روجوه. بعد فترة قصيرة انتزعوا «الأفراد» من شعارهم فبات «حرية حركة وانتقال المال والسلع». وحتى وبعد أن انتزعوا «حركة الأفراد» من أسسهم فإنهم وضعوا «حركة المال أو الاستثمار» تحت شروطهم السياسية. فبات الإستثمار الأجنبي في أي بلد رهنا بقبول الشروط السياسية التي تضعها الدول التي تخرج من حدودها الاستثمارات، أوحتى حركة السياحة. فحرية الحركة والانتقال تمركزت فقط في «السلع» أما «حرية حركة الاستثمارات فباتت قرارا سياسيا يرتبط بشروط البلد المصدرللمال. إنه فخ العولمة الذي كشفه من زمان ليس ببعيد كل من الكاتبين الصحفيين النمسوي، هاني بيتر مارتن والألماني هيرالد شومان. في نهاية عام 1996 صدر كتاب «فخ العولمة» ولم يمض شهران إلا كان قد وزع250 ألف نسخة بلغته الأصلية، الألمانية. في أقل من عام كان قد ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والاسبانية والكورية والصينية. أما مترجمه إلى العربية فكان الراحل الاقتصادي الدكتور رمزي زكي. شرح الكتاب مستقبل العولمة وتأثيراتها على مستقبل الدول الفقيرة وكذلك على الطبقات الفقيرة. وتنبأ بكل التطورات الحادثة الآن في عالم الاقتصاد والسياسة وفي زيادة تمركز المال وفي تزايد البطالة وتراجع فرص العمل وكيف أن فرص العمل هذه سيتم ترفيرها في حدود احتياجات رأس المال المتمركز في نسبة ال20% من البشر الأغنياء. وهي النسبة التي تملك المال وتسير على توجهاته. الخلاصة أن الكتاب استطاع قراءة المستقبل الذي كان ينتظر الشعوب الصغيرة الفقيرة. يجب ألا نلقي اللوم على المسيطرين العالميين على المال والسلطة والبورصات ولكننا أمام دول صغيرة وحكومات لم تع الدرس ولم تتحصن بشعوبها في مواجهة هذا الخطر الكبير الذي كنا ننتظره وبتنا نعيش فيه. خافت من التحصن بشعوبها تهربا من نتائج الديمقراطية والمشاركة وتمكين الفقراء ثم خافت من الضغوط الانقلابية الخارجية فاستسلمت منتظرة المستثمر الخارجي الحامل للرخاء وللثراء. استسلمت حكوماتنا ودولنا شيئا فشيئا للمخطط المتعولم واستجابت مرة في الزراعة و«حررتها» ومرة في الصناعة و«خصصتها» ومرة في الخدمات و«فتحتها لحرية التعامل» فتخلت عن دورها الاقتصادي الذي كان يسد جانبا من احتياجات جماهيرها. ربما تحالف المال مع السلطة مع الفساد والعمولات على جانبي المعادلة، فحدث الخنوع والخضوع للإملاءات.وعندما استمر المخطط العالمي، وتم تصفية كل نتائج دور الدولة الاقتصادي بدأت نسب البطالة في التزايد. ومع تصفية ما كان مملوكا للدولة وتسريح عماله ثم توقف استثماراتها وتجميد تعييناتها ضاقت سوق العمل خاصة عندما انتظرنا تطبيق الجزء الخاص من الأساس العولمي «حرية انتقال المال» طويلا دون تطبيقها. ببساطة لم يتركونا نعمل بأسلوبنا ولم يتكرموا علينا باستثماراتهم فتفاقمت مشاكل الفقراء في كل مكان. وبدأنا نراقب حركات الهجرة غير الشرعية عبر الحدود وعبر البحار. وتعاظمت موجات الهجرة مع الحروب الأهلية في بلدانهم. وبدأ البحر يبتلع «الأفراد» كما تقتلهم رصاصات جنود الحرس وهم خارجون من الأنفاق على حدود المكسيكوالولاياتالمتحدة. لمزيد من مقالات أمينة شفيق