جاءت نتائج الانتخابات البريطانية مفاجئة للجميع بما فيهم حزب المحافظين الذى فاز بأغلبية ضئيلة تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا بعد حصوله على عدد أكبر من المقاعد بالمقارنة بعام 2010. لم يكن ذلك متوقعًا لأن الأحزاب الموجودة فى الحكم غالبًا ما ينخفض تأييدها فى الانتخابات ولأن استطلاعات الرأى توقعت برلمانًا معلقًا لا يحصل فيه أى حزب على الأغلبية الكافية لتشكيل حكومة. ولكن يبدو أن الأغلبية الصامتة التى اتجهت إلى الصناديق فرضت إرادتها لتزيد الأزمة السياسية فى بريطانيا عمقًا. فحكومات الأغلبية الضئيلة لا تنجز كثيرًا فى العادة إلا فى حالة ضعف الخصوم أو انقسامهم، والقضايا المطروحة على ديفيد كاميرون داخل بريطانيا وخارجها شديدة التعقيد وقد يتوقف عليها مصير الاتحاد البريطانى نفسه. وقد عادت الشكوك فى ديمقراطية التمثيل فى الدوائر الانتخابية للظهور. فبالرغم من أن البريطانيين تمسكوا بخيار أن من يحصل على أعلى الأصوات يربح مقعد الدائرة فى مجلس العموم، أوضحت نتيجة الانتخابات الأخيرة أن هذا الخيار ليس عادلاً أو تمثيليًا، فحزب المحافظين كسب 331 مقعدا وكانت نسبة الأصوات التى حصل عليها 36٫9 %، بينما حصل حزب العمال على نسبة 30,4 % من الأصوات ولكن عدد المقاعد كان 232 فقط أى بفارق 99. ولم ينجح حزب الديمقراطيين الأحرار سوى فى ثمانى دوائر رغم أنه حصل على 7٫9% من مجموع الأصوات بينما حصل الحزب القومى الاسكتلندى -الذى أطاح بحزب العمال فى دوائره التاريخية فى سكتلاندا- على خمسين مقعدًا رغم حصوله على 4٫7% فقط من مجمل الأصوات. على صعيد الوضع الداخلى ستواجه حكومة المحافظين تحديات اقتصادية متمثلة فى الحاجة إلى مزيد من خفض العجز فى الموازنة يدفعه إلى السير فى سياسات التقشف وتقليص دولة الرفاه وهو ما يضر بمصالح ذوى الدخول المحدودة. وكان الحزب الديمقراطى الليبرالى قد وعد فى حالة الدخول فى تحالف جديد مع المحافظين أن يعترض على القرار باقتطاع 12 بليون جنيه استرلينى من ميزانية المعونات الاجتماعية. ولعل دلالة تأكيد احتفاظ وزير العمل والمعاشات بمنصبه فى الحكومة الجديدة قبل أى إعلان عن تركيبها يشير إلى أن الفوز المنفرد للمحافظين سمح له بالمضى قدمًا فى تنفيذ هذا الهدف. وينتظر ألا تمر هذه القرارات دون احتجاح وقد خرجت المظاهرات التى تعترض على السياسات الاقتصادية لحزب المحافظين أمام مبنى الحكومة فى داوننج ستريت صبيحة إعلان النتائج. وتعانى الخدمات الصحية تقليص الميزانية وسياسات الخصخصة المستترة التى اتبعتها حكومة المحافظين فى السنوات السابقة. ورغم وعد كاميرون الانتخابى بضخ مزيدا من الأموال للخدمات الصحية فى الأيام الأخيرة قبل التصويت ينتاب البريطانيون الشك فى أنه سيفى بوعده وتتزايد المخاوف حول استمرار النظام الصحى البريطانى الذى أسسه حزب العمال بعد الحرب العالمية الثانية وتحول إلى صرح يفخر به البريطانيون ويعدونه إنجازًا قوميًا. وفى سكتلاندا يشير اكتساح الحزب القومى الاسكتلندى إلى أن المسألة الاسكتلاندية لم تحسم بنتائج استفتاء 2014 لمصلحة البقاء فى المملكة المتحدة. فأعضاؤه الخمسون فى مجلس العموم سيضغطون من أجل مزيد من اللامركزية واستقلال القرار فى سكتلاندا. وقد وعد كاميرون بإجراء استفتاء على البقاء فى الاتحاد الأوروبى تحت ضغط إعلامى وشعبي، ولكن الاسكوتلانديين يفضلون البقاء فى أوروبا. وقد تزداد المطالبة بإجراء استفتاء جديد على استقلال سكوتلاندا ترجح التكهنات أنه سيكون إيجابيًا هذه المرة حتى أن أحد المعلقين تساءل إذا ما كان كاميرون سيدخل التاريخ كآخر رئيس وزراء للملكة المتحدة. أما المعضلة الأخرى التى يواجهها كاميرون فهى علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، وقد وعد فى أثناء الحملة الانتخابية بإجراء استفتاء على عضوية بريطانيا فى الاتحاد بعد عامين فى محاولة لتقليص شعبية حزب استقلال المملكة المتحدة اليميني. وكانت الخطة أن يتفاوض على مزيد من السيطرة لبريطانيا على الهجرة من دول الاتحاد الأوروبى لوقف ما يعرف فى بريطانيا بسياحة إعانات البطالة، حيث يسود مزاج عام بأن المهاجرين من أوروبا الشرقية يفدون لبريطانيا بأعداد كبيرة حيث ينافسون فى سوق العمل ويستفيدون من الإعانات الاجتماعية المختلفة. والآن وقد حصل حزب المحافظين على تفويض بالحكم توقع مسئولون حزبيون أن يجرى الاستفتاء فى العام المقبل مما يعطى كاميرون وقتًا أقل فى التفاوض وفرصًا أقل فى الحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبى بعد رفع سقف التفاوض ليرضى الساخطين داخل بريطانيا. وبينما تتجه بريطانيا لليمين وهى تتعافى ببطء من أزمة اقتصادية وانكماش عالمى يبدو أن الأزمة السياسية تتجه إلى مزيد من التفاقم مما يهدد شكل الدولة المستقرة منذ مئات السنين. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى