وسط الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط والعالم، من الصراع في سوريا إلى الحرب على داعش في العراق، ومن الحرب الأهلية في ليبيا إلى تحول هذا البلد لممر دولي لمافيا الهجرة غير الشرعية، ومن الملف النووي الإيراني إلى الحرب على الحوثيين في اليمن، ومن الأزمة الاوكرانية إلى العلاقات مع امريكا، يقف الناخب البريطاني غير مكترث تماما، . فالقضايا الداخلية وعلى رأسها الاقتصاد، وإصلاح نظام الرعاية الصحية، والعلاقة مع الاتحاد الاوروبي تحتل سلم الاولويات. أما السياسة الخارجية وقضايا الشرق الأوسط فغابت تقريبا كليا عن اهتمامات الناخب، وإن لم يمنع هذا سياسيين من الأحزاب الأساسية من إجراء مناظرة حول مواقفهم من قضايا السياسة الخارجية الأكثر إلحاحا. وكانت النتيجة ان هذا ايضا لم يحرك اهتمامات الناخبين ولو قليلا. فليس هناك اختلاف كبير بين الأحزاب البريطانية حول الأولويات أو طرق التعامل مع الأزمات الحالية كى تشتعل الحملة الانتخابية وتتصدر قضايا السياسية الخارجية المشهد. بريطانيا خامس اكبر اقتصاد في العالم، وخامس اكبر ميزانية دفاعية في العالم، وهى دولة عضو في حلف شمال الأطلنطي (ناتو) وفي مجلس الأمن الدولي، واحدى القوى النووية في العالم، والدولة التي بادرت بالتدخل في العراق وليبيا، وتقاتل الآن ضد داعش في سورياوالعراق، عندما تكون هذه الدولة في ذلك المزاج الانعزالي يفرض السؤال التالي نفسه: هل هذه مجرد أعراض للإرهاق من التدخل غير المدروس الذي أدى إلى كوارث كبيرة في الشرق الاوسط على مدار العقد الماضي أم تحول إستراتيجي يتبلور حول أدوار بريطانيا على الساحة الدولية؟. يقول روبن نبلت، مدير مؤسسة “شاثاوم هاوس” للدراسات في لندن، “من الصعب الحكم على السياسة الخارجية لدولة ما خلال الانتخابات، فالشأن المحلي سيغلب لا شك، إلا إذا كان هناك تهديد خارجى واضح وهذا غير موجود. أظن ان البريطانيين يريدون ان يكونوا في الصف الثاني وليس الأول فيما يتعلق بالسياسة العالمية الآن، فهناك ارهاق وإعياء من التدخل البريطاني في العراق وافغانستان وليبيا. ومع ذلك لا أعتقد ان وقت الانتخابات هو الافضل للحكم على السياسة الخارجية البريطانية”. هناك الكثير من الاتهامات ضد رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون من ان سياساته أدت إلى تدهور مكانة بريطانيا وتقلص نفوذها الدولي بسبب تدخلها السريع في ليبيا، وبعدما صوت البرلمان في أغسطس 2013 على رفض التدخل العسكري في سوريا، لكن الحقيقة أن المزاج العام في بريطانيا ضد التدخل العسكري في أي ازمة. فلم يخرج الشارع البريطاني بعد من أثار حرب العراق وافغانستان وليبيا. وفي استطلاع أخير للرأي العام بين مؤسستى “يوجوف” و”شاثاون هاوس” حول دور بريطانيا في العالم، ما زالت الاغلبية ترى أن بريطانيا دولة كبيرة على الساحة الدولية بسبب عضويتها في مجلس الامن، وترساتها النووية، وعلاقتها الخاصة بامريكا، ووضعها في الكومنولث، لكن هذا التصور لدور بريطانيا في العالم لم يتبلور في دعم أي تدخل عسكري بريطاني في الشرق الأوسط. فالغالبية العظمى من البريطانيين لا تريد التدخل في أي صراع في المنطقة. لكن سواء أهتم الناخب البريطاني بالقضايا الخارجية ودور بلاده على الساحة الدولية أم لم يهتم، تظل تحديات السياسية الخارجية التي ستواجهها الحكومة البريطانية الجديدة كبيرة. فالشرق الأوسط في لحظة مفرقية. فالدول الغربية تسارع لعقد اتفاق نووي تاريخي مع إيران سيتم بموجبه عودة إيران للمجتمع الدولي بدون عزلة أو عقوبات. والعواصم الغربية، وبينها لندن تدرك أن هناك موائمات يجب ان تحدث بين علاقاتها مع إيران وعلاقاتها مع باقي دول المنطقة. ويقول دبلوماسي بريطاني عمل في الشرق الأوسط ل”الأهرام”:”التحديات أمام الحكومة المقبلة كبيرة. فلدينا الكثير من الأزمات المفتوحة المتأججة، على غرار سورياوالعراق وليبيا. لكن لدينا أيضا ملفات يمكن ان يحدث فيها انفراج كبير، مثل المفاوضات مع إيران. نتائج التوصل لاتفاق مع إيران لا يمكن التنبوء بها الآن. فالكثير من قيادات المنطقة متوجسون من الاتفاق بين إيران والغرب ويرون ان ذلك سيفتح الطريق أمام نفوذ إيراني غير مسبوق. مصادر القلق هذه لا يأخذها أحد هنا باستخفاف. التحدي أمام الحكومة الجديدة هو إتمام الاتفاق مع إيران إلى جانب طمأنة الدول القلقة، ووضع الأسس لسياسة شرق أوسطية جديدة تستفيد من علاقتنا الجيدة بالدول العربية من جهة وإيران من جهة اخرى لحل قضايا عالقة تكلفتها الانسانية هائلة مثل الأزمة السورية. لكن هذا لن يكون سهلا”. وإلى جانب هذا التحدي، هناك الملف الليبي، فقد وجهت إتهامات بغياب الرؤية الاستراتيجية للحكومة البريطانية الحالية. فهى شاركت في قصف ليبيا وإطاحة معمر القذافي خلال الثورة الشعبية ضد نظامه عام 2011. لكن التحالف الغربي، وبرغم وعوده “السير مع الليبيين في كل خطوة لإعادة بناء البلاد”، ترك ليبيا نهبا للميليشيات المسلحة والقبائل المتحاربة ومافيا الهجرة غير الشرعية. ووسط غياب حكومة مركزية في ليبيا باتت مشكلة المهاجرين غير الشرعيين واحدة من اكبر مشاكل اوروبا امنيا وانسانيا وسياسيا. ويقول المحافظون في برنامجهم الانتخابي ومناظراتهم حول سياساتهم الخارجية “إنهم يريدون العمل مع المبعوث الأممي للأزمة الليبية”، الذي اجتمع مع الاجنحة المتناحرة في الرباط اخيرا في محاولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية. ويشدد كاميرون على أن التدخل العسكري في ليبيا «كان القرار الصحيح.. وإلا لتحولت بنغازي إلى أكبر مذبحة في القرن الحادى والعشرين»، ويقر ان هناك أخطاء حدثت في تخطيط ما بعد إطاحة القذافي، لكنه يشدد ايضا على أن “لعبة اللوم” لن تساعد في حل الوضع المتدهور في ليبيا ف”هى ازمة دولية وتحتاج إلى حل دولي”. أما فيما يتعلق بأزمة الهجرة غير الشرعية عبر الممر الليبي، فإن «المحافظين» و«العمال» و«الخضر» و«الأحرار الديمقراطيون» و«استقلال بريطانيا» (يوكيب)، يتفقون على إعادة “قوة البحث والانقاذ في المتوسط “ لمساعدة المهاجرين. ووقف التعامل بمنطق «دعهم يموتون ليكونوا عبرة» كوسيلة لردع باقي المهاجرين. كما يتفقون على زيادة الدعم الإنساني والمساعدات للدول المصدرة للهجرات غير الشرعية وعلى رأسها جنوب السودان، وسوريا، ونيجيريا، واريتريا. ويدعو «الخضر» و«الأحرار الديمقراطيون» إلى توفير «ممرات أمنة للمهاجرين» الهاربين من مناطق الصراع أو المناطق الفقيرة، وينتقدون إغلاق كل الممرات الآمنة أمام المهاجرين وتركهم فريسة في ايدي مافيا الهجرة غير الشرعية في ليبيا. كما يدعو «الخضر» إلى أن تستقبل بريطانيا المزيد من طالبي اللجوء. اما حزب «العمال» فيطالب بزيادة المساعدات المالية للدول الافريقية كوسيلة للحد من الهجرة إلى اوروبا، ويدعم إعادة «قوة البحث والانقاذ» في البحر المتوسط، لكنه في الوقت ذاته يشدد على أن «هذا لا يعني أننا سنفتح الابواب أمام أي مهاجرين من افريقيا والشرق الاوسط». وفي الملف السوري يدافع «العمال» عن قرارهم دعم عدم التدخل في سوريا “طالما ليس هناك قرار من المتحدة أو تقرير دولي حول صحة إستخدام النظام السوري للأسلحة الكيمائية”. في المقابل يتهم “المحافظون” حزب “العمال” أنهم أدوا برفضهم التدخل في سوريا إلى “زيادة نفوذ داعش وسيطرتها على المزيد من الأراضي، و”إضعاف قدرة السياسة الخارجية البريطانية في الساحة الدولية”. ويدافع “المحافظون” عن نهجهم الحالي في سوريا، وهو نهج يعتمد على زيادة المساعدات الإنسانية للنازحين حيث خصصت حكومة كاميرون نحو 800 مليون جنيه لاعادة توطين بعض ال7 ملايين الذين شردتهم الحرب الاهلية في سوريا، وتقديم دعم لوجسيتي وعسكري خفيف لعناصر في المعارضة السورية. أما «الأحرار الديمقراطيون» من ناحيتهم يتحدثون عن «معضلة السياسة الخارجية البريطانية بعد حرب العراق». فالحزب لم يكن مع التدخل في سوريا، كما كان رافضا لغزو العراق عام 2003. ويؤكد الحزب أنه «برغم انه من المهم اخلاقيا وسياسيا التدخل لحماية المدنيين، فإن من الصعب على بريطانيا التدخل في كل الأزمات». ويتهم «الاحرار الديمقراطيون» بريطانيا بعدم استخدام قوتها الناعمة عبر تقديم منح تعليمية ومساعدات للمجتمع المدني ومنظمات حل الصراعات لمنع اندلاعها. وهو موقف قريب من موقف حزب «الخضر» الذي يفضل أدوات دبلوماسية بديلة من بينها الوساطة لحل سياسي وزيادة المساعدات للمدنيين على الأرض. اما حزب “يوكيب”، فيرى أنه ليس هناك أي دعم شعبي للتدخل العسكري في سوريا، موضحا أن “التدخل الخارجي تم اساءة استخدامه في الكثير من الحالات حتى فقد مصداقيته تماما حتى في الحالات التي لابد من التدخل فيها”. ويرفض الحزب اجمالا أي مغامرات بريطانية خارجية او تدخلات في نزاعات في الشرق الاوسط او افريقيا ويرى ان بريطانيا تحتاج إلى أن تنظر للداخل وتحل مشاكلها الاقتصادية والسياسية. اما فيما يتعلق بالعلاقة مع امريكا. فسواء جاء زعيم “العمال” إيد ميليباند أم ظل كاميرون فإن التعامل سيكون مع رئيس امريكي جديد في البيت الأبيض. لكن هذه العلاقة ليست في أحسن احوالها ايضا. فكاميرون لم يستخدم تعبير “العلاقة الخاصة” لوصف العلاقات مع واشنطن، وانما دأب على استخدام وصف “علاقة أساسية”. ولا يمكن إنكار تأثير دور “يوكيب” في هذا التحفظ البريطاني. فزعيم الحزب نايجل فاراج دائما ما انتقد “علاقة التبعية” بين لندنوواشنطن، وهو لديه موقف معاد من امريكا بقدر موقفه المعادي من اوروبا. ويرى فاراج ان “العلاقة الخاصة” هذه ادت خلال ولاية جورج بوش الابن وتوني بلير رئيس الوزراء الأسبق إلى جر بريطانيا في حرب لم يكن لبريطانيا أي مصلحة حقيقة فيها، مما أدي إلى تعزيز صورة بريطانيا ك «تابعى لامريكا، ومعاناة الاقتصاد البريطاني وتدهور مكانة بريطانيا في اوروبا والعالم. ولا تختلف الأحزاب الأساسية في بريطانيا على ان الاولوية يجب ان تعطى لتعزيز “الدبلوماسية التجارية” مع الصين والهند على وجه الخصوص. ما يقلق السياسيون في لندن على المدى الطويل أن هناك تراجعا لا يمكن إنكاره في مكانة بريطانيا الاستراتيجية. فداخل اوروبا وبسبب الخلافات الدائمة حول إصلاح الاتحاد الاوروبي، همشت لندن في الكثير من القضايا. ولم تلعب دورا محوريا مثلا في الازمة الاوكرانية التي لعبت فيها المانيا وفرنسا الادوار الاهم. وفي اليونان حملت المانيا العبء الأكبر في المفاوضات. اما من حيث قوة بريطانيا العسكرية، فالميزانية المخصصة للدفاع تتقلص بشكل دوري. وفي ميزانية الحكومة الائتلافية الحالية نصيب الدفاع من اجمالي الميزانية أقل من 2% وهو الحد الادنى بحسب معايير حلف شمال الاطلنطي. بريطانيا اليوم في مفترق طرق حقيقي، فموازين القوى داخل اوروبا ليست لصالحها، بل لصالح المانيا. وهى من ناحية اخرى ما زالت تحاول إيجاد تلك الصيغة المثالية بين سياسة خارجية تعتمد على القوى العسكرية من ناحية، وعلى قوة الحوار والتوسط لحل النزاعات والمساعدات الانسانية والتنمية من ناحية اخرى. ويقول نبليت من “شاثاوم هاوس”: “كل دول العالم تجد صعوبة بالغة في استخدام ادواتها الدبلوماسية او العسكرية للتأثير على الكثير من التطورات الدولية. والولايات المتحدة نفسها من ضمن هذه الدول، فهى عاجزة عن التدخل لحل اى ازمة بإستثناء المفاوضات النووية مع إيران. هناك حالة دولية لإعادة تقييم الادوات التي يمكن استخدامها للتأثير دوليا. هذه ليست مشكلة بريطانيا وحدها”.