القاعدة الذهبية الثابتة والمستقرة، منذ قديم الأزل، أن الواجب المحورى والاساسي للكاتب ينحصر فى التعبير بصدق وموضوعية طوال الوقت عن هموم وآلام الناس، ومناصرة قضاياهم العادلة بلا كلل أو ملل وأن قيامه بتلك المهمة الصعبة الشائكة تستوجب تنحية ذاته وعواطفه جانبا. لكن تأتى لحظات ومواقف يُجبر فيها الكاتبُ على تقديم الخاص على العام، والكشف عما يُحزنه ويؤلمه ويمزقه من الداخل، وحين يفعل ذلك يكون منطلقه عرض تجربة انسانية خالصة ربما تتحول إلى واحة يستظل بها بعض من مروا بها، أو بما يشبهها، وغير قادرين على ايصال صوت معاناتهم، وأيضا يمكن أن تكون مدخلا للفت الأنظار لجوانب ومواضع خلل وقصور تتطلب عناية فائقة، لكى نصون المجتمع ومقدراته من أمراض خبيثة تنتشر فى اوصاله انتشار النار فى الهشيم، وتعرض ثروته البشرية للتجريف المتواصل. فقسوة ما بعدها قسوة أن يرقد عزيز عليك على فراش المرض لا حول له ولا قوة، وتقف عاجزا عن التخفيف من متاعبه وأوجاعه، فما بالك إذا كان مصابا بالسرطان الذى لا يميز بين غنى وفقير، وطفل وشاب وشيخ طاعن فى السن. قسوة ما بعدها قسوة أن ترى عزيزك الغالى يتوجع بلا انقطاع، ويئن راجيا رحمة المولى عز وجل، ويعيش على المسكنات التى فقدت مفعولها وتأثيرها سريعا، تنظر فى عينيه التى تستحثك على البحث عن دواء ناجع لمرضه، بعدما نفذ الورم الخبيث إلى مناطق حيوية اثرت على وظائف جسده. قسوة ما بعدها قسوة الا تستطيع مصارحته بحقيقة مرضه العضال حفاظا على حالته النفسية ومعنوياته ومعنويات المحيطين به، فالجانب النفسى للمصابين بالسرطان فى معظم الاحيان يفوق فى أهميته ما يتلقاه من علاج كيمياوي واشاعى وأدوية. قسوة ما بعدها قسوة أن تطرق كل الأبواب، بحثا عن بارقة أمل فى شفائه، وأن تحصل علي رد لا يتغير «معذرة لا يمكننا فعل اى شئ، فالمريض فى حالة متأخرة»، ووسط كل هذا تُحرم من اظهار مشاعرك أمامه، وأن ترسم البسمة على وجهك، بينما الألم يزلزل كيانك، وتتفنن فى ترديد الكلمات والعبارات المشجعة المحفزة والباعثة على الأمل والتفاؤل، حينئذ تكون فى وضع التقاط صورة سيلفى مع الألم ومطلوب منك الابتسام بدون توقف. من واقع هذه التجربة الحزينة نخرج بنتيجة أظنها معلومة ومتداولة فيما بيننا، هى أن السرطان وغيره من الأمراض المستعصية تمثل تهديدا مباشرا لبلدنا ومستقبلها، وقضية أمن قومى لابد أن تتضافر جهودنا لمقاومته وحصاره، والقضاء على مسبباته والعثور على علاج يقلل من عدد الوفيات الناتجة عنه. فسنويا يصاب 140 ألف مصرى بالسرطان بمتوسط 150 حالة لكل 100 ألف نسمة، وتنفق الدولة فى العام 8 مليارات جنيه لعلاج الأورام، والمبلغ ليس كبيرا كما قد يتبادر للذهن إن وضعنا في اعتبارنا عدد المراكز المنوط بها علاج السرطان بتكاليفه الباهظة. هنا يتدخل المصريون لمساندة مراكز ومعاهد ومستشفيات الأورام، بما يقدمونه من تبرعات، وأغلبها يُكون فى شهر رمضان الكريم . وقبل أيام قليلة صرحت الدكتورة منى أبو العينين رئيس مركز الأورام بقصر العينى، بأن المركز استقبل خلال العام الماضى نحو 3 آلاف و224 حالة جديدة، بالإضافة إلى 25 ألفا يعالجون فيه من مختلف المحافظات. وتضيف أن 60 % من إجمالى انفاق المركز مصدره التبرعات. وأن ميزانيته انخفضت إبان السنوات الأربع الماضية من 12 مليون جنيه إلى 4 ملايين فقط. في حين كشف الدكتور محمد لطيف مدير المركز القومى للأورام النقاب عن أن العيادات الخارجية بالمركز استقبلت في 2014 نحو 244 ألفا و854 مريضا بمتوسط 20 ألفا شهريا. لا اريد اثقال كاهل الدولة بمزيد من الأعباء المالية فى التوقيت الراهن مع أن هذا واجبها ومسئوليتها، فكلنا يعلم ضيق ذات يد الحكومة، نظرا لحرج الوضع الداخلى اقتصاديا وماليا، وما تقصر فيه الدولة يحاول المواطن تعويضه، غير أن هناك جانبا آخر لا يمكن للدولة التنصل منه مهما كانت الاعذار والمبررات. الجانب المقصود يتصل بأمرين، الأول العمل على تهيئة البيئة الصالحة للعلماء والمعاهد البحثية للتوصل لأساليب وطرق علاج جديدة للسرطان، وأن توفر لها الاعتمادات اللازمة، وتوسيع دائرة التعاون مع الجامعات والمعاهد العاملة فى هذا المجال بالخارج لتبادل الخبرات والتجارب.الأمر الثانى أن تتصدى بقوة وبلا رحمة لمصادر ومنابع التلوث المتعددة فى بلادنا والتى تتسبب فى تزايد أعداد المصابين بالسرطان، فلدينا التلوث الزراعى الذى يتطلب التدخل لتجريم استخدام مياه الصرف الصحى لرى الأراضى الزراعية بدون معالجتها وهى الكارثة التى حلت على رؤوسنا منذ سنوات. ولدينا التلوث البيئى والقمامة الشاهد الأكبر عليه، بخلاف التلوث السمعى والبصرى، واختناقنا بعوادم السيارات، ودخان المصانع، وغبار المحاجر، والتدخين الذى إن عملنا على الحد منه فقد تنخفض معدلات الاصابة بالأورام بنسبة 80%. وكذلك التلوث الغذائى بوجود اغذية مجهولة المصدر، وغير مطابقة للمواصفات والاشتراطات الصحية، لأنها منتجة بمصانع «بير السلم» والسماح بدخول اصناف من الطعام لا يصلح للاستخدام البشرى، بسبب الفساد، تلك مواطن تحتاج لمراقبتها وعدم التهاون معها لكى نتخفف من آلامنا وأوجاعنا. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي