هناك منهجان للتعامل مع النتائج الإيجابية للقمة الاقتصادية التى عقدت أخيرا بشرم الشيخ، المنهج الأول يعتبر ان ما أسفرعنه المؤتمر من نتائج، والتى فاقت التوقعات بكثير، هى نهاية المطاف وهى غاية المراد، وبالتالى علينا الانتظار حتى نجنى الثمار، اما المنهج الثانى فهو يرى ان نتائج المؤتمر ما هى إلا نقطة البداية الأساسية للانطلاق نحو المستقبل فى سبيل إحداث النقلة التنموية المطلوبة للبلاد.ولاشك ان المنهج الثانى هو النهج الصحيح والسليم الذى يجب اتباعه والأخذ به اذا ماأردنا احداث عملية تغيير اقتصادى واجتماعى شامل بالبلاد، وتحقيق زيادة مضطردة ومستمرة فى إشباع الاحتياجات الاساسية المادية والمعنوية للأفراد، وبعبارة اخرى تحقيق التنمية الشاملة، والقضاء على التخلف والمشكلات العديدة التى يعانى منها الاقتصاد المصرى. فالتنمية ليست مجرد أموال تتدفق من الخارج فى شكل معونات او استثمارات، بل هى عملية متعددة الجوانب من حيث كونها تعيد تشكيل الهيكل الاقتصادى والانتاجى بالبلاد من خلال اعادة النمو المتوازن لفروع الانتاج وتعمل على بناء قاعدة انتاجية قوية تساعد على زيادة الانتاج ورفع معيشة الافراد . فالتنمية ليست تطورا تلقائيا ، تحدث من تلقاء نفسها ، بل هى عمل إيجابى يهدف إلى النهوض بأوضاع وقدرات المجتمع، وبالتالى فهى عمل إرادى ينعكس فى سياسات واضحة يتقبلها المجتمع ككل فى ضوء أهداف واقعية محددة . من هذا المنطلق نرى ان هناك العديد من الموضوعات التى تحتاج الى الاهتمام بها، ووضعها على رأس جدول الاعمال خلال الفترة الراهنة، اذا ما أردنا تفعيل النتائج الإيجابية للقمة الاقتصادية، والبناء عليها فى سبيل الانتقال الى مصاف الدول المتقدمة، يأتى على رأسها العمل على تحويل المجتمع المصرى الى مجتمع منتج ومتطور. ومن المتفق عليه، أن النمو يتحقق من ثلاثة مصادر أساسية هى تراكم رأس المال البشرى والمادي، وكفاءة تخصيص الموارد بين قطاعات الاقتصاد القومي، ورفع مستوى الإنتاجية .الأمر الذى يسهم فى توليد المزيد من فرص العمل. وذلك انطلاقا من ان التنمية هى إضافة طاقات إنتاجية جديدة للمجتمع عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد المالية ورفع معدل الاستثمار. وحجر الزاوية هنا هو زيادة الانتاج ورفع الإنتاجية، وتطوير القدرة التكنولوجية للبلاد. باعتبارها المحرك الاساسى للنمو الاقتصادى. وبعبارة أخرى اذا أرادت مصر تحقيق الانطلاقة الكبرى لاقتصادها وان تجد مكانا لها على الخريطة الدولية فانه لاسبيل امامها إلا ببناء وتطوير قاعدة إنتاجية قوية، وقدرة تكنولوجية محلية تمكنها من التعامل مع الأساليب التكنولوجية الحديثة واستيعابها داخل الاقتصاد القومى. خاصة بعد ان أصبح المعرفة والعلم هما اساس القدرة التنافسية الجديدة للدولة وذلك فى خضم التغييرات العالمية الجارية حاليا والتى قذفت بالعالم الثالث ومن ضمنه مصر الى اتون التنافس العالمى المرير. الامر الذى ادى الى ان تصبح الميزة النسبية للنجاح فى الوقت الراهن هى مدى القدرة التكنولوجية والقوة الابداعية لدى الدولة. اذ أدى تسارع خطى الثورة فى علم المواد والتكنولوجيا الحيوية الى احداث تحولات جوهرية على المصادر الأربعة التقليدية للنمو «الارض والعمل ورأس المال والادارة» والتى تضاءلت اهميتها لصالح المنهج التكنولوجى ومستوى التعليم . وهكذا تناقص بشدة استخدام المواد الأولية والمواد الطبيعية بالنسبة للناتج المحلى، وتضاعفت نسبة السلع التكنولوجية المتطورة فى التجارة السلعية العالمية، وفى المقابل انخفض نصيب المنتجات الأولية. وهكذا عمدت التغييرات الجارية فى البنية الاقتصادية إلى نسف استراتيجيات النمو التى كان معمولا بها حتى نهايات القرن الماضى، واصبح بناء القدرات التكنولوجية المحلية من أولويات معظم الدول . كل هذا يدفعنا للتساؤل عن الكيفية التى يمكن بها الاستفادة من الاستثمارات المتوقعة بعد مؤتمر شرم الشيخ لاحداث النقلة المطلوبة، وإيجاد اقتصاد منتج وفعال يضمن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة بالمجتمع؟وهذا التساؤل وغيره من الاهمية بمكان بحيث ينبغى ان يحتل صدارة المناقشات الجارية حالياحول الاستعداد لمواجهة التحديات الراهنة بكل مافيها من مشكلات. يضاف الى ذلك ان وجود سلعة رديئة من منتج محلى من شأنها الاضرار بسمعة الانتاج المحلى للدولة ككل، ويحد من قدراتها على النفاذ للاسواق، وهنا تأتى اهمية تضافر جهود المجتمع ككل وصهرها فى بوتقة واحدة تضع نصب عينيها النقلة التكنولوجية المطلوبة. وهنا يشير العديد من المؤشرات الاقتصادية الى ان هناك ضعفا شديدا فى انتاجية المجتمع المصرى ككل، وتراجعت مساهمة القطاعات الإنتاجية فى نمو الناتج بصورة كبيرة رغم التحسن النسبى فى الصناعات التحويلية خلال الفترة الأخيرة. مع ملاحظة ان القطاع الخاص قد اسهم بنحو 1.8 نقطة مئوية فى معدل النمو خلال العام المالى 2013/2014 مقابل نحو 0.3 نقطة مئوية للقطاع العام والحكومة. وبالتالى تراجعت مكانة مصر فى القدرة التنافسية على الصعيد العالمى ، حيث احتلت المرتبة ال 119 من ضمن 144 دولة شملهم تقرير التنافسية العالمية عن عام 2014/2015. والاهم من ذلك انها احتلت مرتبة متدنية فى جميع المؤشرات الخاصة بدليل التكنولوجيا، والذى يعبر عن مستوى الابتكار وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات داخل البلد، حيث جاءت فى المرتبة ال 124 وجاء ترتيبها فى القدرة على الابتكار فى المرتبة ال 132 وفى كفاءة مؤسسات البحث العلمى جاءت فى المرتبة ال 135، وفى القدرة على استيعاب التكنولوجيا الجديدة جاءت فى المرتبة ال 127. وكلها مؤشرات تدل على تدنى مكانة مصر فى هذا المؤشر المهم. وعلى الرغم من ارتفاع نصيب المكون التكنولوجى فى القيمة المضافة للصناعة المصرية من 32% عام 1980 الى 41% عام 2013 إلا ان هذه النسبة تظل اقل كثيرا من الدول المنافسة، ففى ماليزيا وصلت هذه النسبة الى 65% وفى اسرائيل 56% والبرازيل 54%. ومما يزيد من خطورة هذه المسألة انخفاض نسبة الصادرات الصناعية من القيمة المضافة للصناعة المصرية، والتى بلغت نحو 6% فى المتوسط بينما تصل هذه النسبة الى 45% فى المغرب و174% فى المجر و168% فى ماليزيا و78% فى الاردن و71% فى تركيا و88% فى تونس و69 % فى ماليزيا و90% فى المكسيك. كما ان نصيب الصادرات من السلع الصناعية عالية التكنولوجيا من إجمالى قيمة الصادرات المصرية متدن للغاية حيث لم يصل الى 0.6% فى المتوسط خلال الفترة ( 2000 - 2014 ) مقابل 58.6% فى ماليزيا و15.7% فى البرازيل و21.6% فى المكسيك و21.3 % فى اسرائيل و11% فى المغرب. كل هذه المؤشلاات وغيرها تدل دلالة واضحة على ان المجتمع مازال يحتاج الى نهضة علمية وتكنولوجية تؤهله للوقوف فى وجه المنافسة العالمية الضارة وتساعد على رفع الإنتاج والإنتاجية، ومن ثم تحقيق الرفاه المنشود للمواطن المصرى. وبالتالى يجب اتباع استراتيجية متكاملة تركز على تنشيط النمو وتوسيع القدرة. عن طريق توفير حوافز كافية لتوسيع تلك القدرة على النمو. أى ان تصحيح السياسات الاقتصادية، ينبغى ألا يترجم الى مجموعة جامدة من الإجراءات. اذ ان اى إصلاح، مهما كان مفيدا فى تخصيص الموارد بكفاءة، لا يستحث النمو بالضرورة. وبالتالى لابد من تطبيق سياسات للاقتصاد الكلى تقلل من مخاطر الأزمات وتكرارها، وتساعد على علاج أوجه الضعف والاختلالات فى بنية الاقتصاد القومى. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي