الإصلاح الاقتصادي في عهد مبارك عبدالفتاح الجبالي يعد من نافلة القول بأن التنمية هي عملية تغيير اقتصادي واجتماعي شامل, بهدف تحقيق زيادة مضطردة ومستمرة في إشباع الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية للأفراد, وبالتالي فجوهر التنمية هو إحداث تحول جذري في المجتمع يؤدي إلي القضاء علي التخلف, ويزود المجتمع بآليات التقدم والنهضة, وبالتالي فالتنمية هي عملية متعددة الجوانب من حيث كونها تعيد تشكيل الهيكل الاقتصادي والإنتاجي بالبلاد من خلال إعادة النمو المتوازن لفروع الإنتاج, وتعمل علي بناء قاعدة إنتاجية قوية تساعد علي زيادة الإنتاج, ورفع معيشة الأفراد. وإذا كان الهدف النهائي من العملية الإنتاجية هو رفع معدل النمو, لكي ينعكس علي مستويات معيشة ورفاهية الأفراد, فالتنمية هي الوسيلة المثلي لإحداث النقلة الموضوعية المطلوبة للمجتمع, وبالتالي رفع مستوي الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لجميع الأفراد, مع الأخذ بالاعتبار أن التنمية ليست تطورا تلقائيا, تحدث من تلقاء نفسها, بل هي عمل إيجابي يهدف إلي النهوض بأوضاع وقدرات المجتمع,وبالتالي فهي عمل إرادي ينعكس في سياسات واضحة يتقبلها المجتمع ككل في ضوء أهداف واقعية محددة. وتلعب الدولة دورا مهما في اختيار وتحديد السياسات والأدوات اللازمة للنمو, وتحديد الآليات التي تضمن كفاءة عمل الأسواق بشكل سليم, وهذا يعني ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة في الإنتاج, وهكذا تعمل الدولة علي تنظيم السوق, ومنع الممارسات الاحتكارية, مع ضمان عدالة التوزيع, وضمان التخطيط الاستثماري السليم. ولتحقيق الأهداف سالفة الذكر تحرك المجتمع المصري خلال العقود الثلاثة الماضية من خلال منظومة تنموية متكاملة تهدف إلي الارتفاع بمعدلات التنمية البشرية, وتحقيق الرفاهية, والارتقاء بمستوي معيشة الأفراد, وذلك من خلال تحديث المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا, معتمدا علي قراءة علمية ودقيقة لإمكاناته, ومتسلحا بتراثه الثقافي, وعلي وعي وإدراك بالمتغيرات العالمية والإقليمية للاستفادة من مزاياها, واكتشاف مخاطرها, ومنعها, أو علي الأقل الحد من تأثيراتها السلبية. وكانت ظواهر تدهور أداء الاقتصاد القومي من أهم الدوافع للإسراع في البدء بتغير المسار, سواء تمثل ذلك في تراجع معدلات النمو خلال الفترة من1965/1964 حتي أوائل السبعينيات من6% إلي3%, وتراجع نمو الزراعة من3.4% إلي2%, هذا فضلا عن أنه وبرغم الدفعة القوية للتصنيع آنذاك فإن نمو الصناعة قد هبط إلي6% عام1971 إلي3% عام1973. ناهيك عن الأزمة المالية الحادة التي عاني منها الاقتصاد قبل سياسة الإصلاح الاقتصادي حيث ظل العجز الكلي للموازنة العامة للدولة كمتوسط, عند مستوي23% من الناتج المحلي الإجمالي, واقترن ذلك بارتفاع نسبتي التمويل الخارجي والمصرفي للعجز, وهو ما أدي إلي ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة, وقد تزامن ذلك مع تدهور البنية الأساسية في المجتمع( من طرق وكباري, ووسائل اتصالات, ومواصلات وغيرها), وتعثر القطاع العام الذي كان يقود العملية التنموية آنذاك, وتدهور أداء وحداته المختلفة, مع تراكم المديونية المستحقة علي وحداته الإنتاجية, وتدهور حالة الأصول الثابتة, ناهيك عن تقادمها التكنولوجي. لكل ما سبق وغيره كان من الضروري إدخال تحولات جذرية جديدة في الاقتصاد القومي قامت علي دعامة أساسية مفادها إفساح المجال للقطاع الخاص للإسهام بالنصيب الأكبر في العملية الإنتاجية, وتم ذلك بعدة وسائل, منها عملية الخصخصة التي تم بمقتضاها نقل العديد من المشروعات العامة إلي هذا القطاع, فضلا عن تغيير أو تعديل العديد من القوانين والإجراءات المنظمة للنشاط الاقتصادي, التي كانت تقف حجر عثرة علي سبيل انطلاق هذه العملية. وفي هذا السياق طبقت الحكومات المختلفة حزمة هائلة من الإجراءات الاقتصادية, وأجرت العديد من التغييرات القانونية في البيئة التشريعية بالمجتمع, بغية جعلها تتواءم مع الأهداف الجديدة, وتبنت استراتيجية تنموية جديدة قوامها الاعتماد علي آلية السوق وجهاز الثمن, باعتبارهما المحور الأساسي لرفع كفاءة الاقتصاد القومي, ومن ثم إحداث التنمية المنشودة للبلاد, واستخدمت الآليات الاقتصادية. كان من الطبيعي أن تنعكس هذه السياسات بنتائجها علي الاقتصاد المصري الذي شهد خلال الفترة محل الدراسة عددا من المؤشرات الإيجابية المهمة, وتشير البيانات إلي أنها قد حققت نجاحات لا يستهان بها في هذا الشأن, وذلك إذ حقق الاقتصاد المصري معدلا للنمو بلغ5.4% خلال الفترة1990/1980, وهبط قليلا إلي4.5% خلال الفترة2003/1990, مع ملاحظة أن البلدان متوسطة النمو( التي تقع من ضمنها مصر) قد حققت معدل نمو بلغ2.8% خلال الفترة الأولي, و3.5% خلال الفترة الثانية. وقد استمر هذا المعدل في الزيادة فارتفع من3.1% عام2003/2002, إلي4.2% عام2004/2003, وإلي4.6% عام2005/2004, وإلي6.9% عام2006/2005, وإلي7.1% عام2007/2006, وارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي بسعر السوق من22.5 مليار جنيه عام1982/1981 إلي731.2 مليار جنيه عام2007/2006.وعلي الجانب الآخر حقق النمو الصناعي معدلا تراوح بين3.3% خلال الفترة1990/1980, وارتفع إلي4.5% خلال الفترة2003/1990, وذلك مقابل معدل نمو للصناعة في الدول متوسطة الدخل تراوح بين2.6% و4.2% خلال الفترة نفسها, الأمر الذي أدي إلي زيادة نصيب الصناعة في الناتج من29% عام1990 إلي34% عام2003, بينما انخفض هذا النصيب بالنسبة للدول متوسطة النمو من39% إلي36% خلال الفترة نفسها. وعلي الجانب الآخر فقد ظهرت علامات التعافي في الطلب علي الاستثمار خلال العام محل الدراسة, إذ ارتفع معدل نمو الاستثمار من6.3% إلي9.3% خلال العامين المذكورين, وبلغت نسبة الاستثمار للناتج المحلي الإجمالي نحو18.7%.كما أدي تحسن البيئة الاستثمارية إلي مزيد من الثقة في المناخ الاقتصادي العام, وهو ما أسهم في زيادة حجم الاستثمارات المنفذة من6.2 مليار جنيه عام2002/2001, إلي155.3 مليار عام2007/2006, وقد ارتفع نصيب القطاع الخاص في هذه الاستثمارات من1892.5 مليون جنيه, إلي97 مليار جنيه عام2007/2006.ومن بين قطاعات البنية الأساسية التي استأثرت بنصيب كبير من حجم الاستثمارات يأتي قطاع النقل والاتصالات وقناة السويس في مركز الصدارة بنسبة17%, أي بنحو126.4 مليار جنيه, يليه قطاع الإسكان بنسبة10.4%, أي بنحو77.1 مليار, ثم قطاع الكهرباء بنسبة7.4% بنحو55.2 مليار, ثم قطاع المرافق العامة بنسبة7.4%, وأسفرت هذه السياسة عن تحسن الميزان التجاري بميزان المدفوعات فارتفع الفائض المحقق بهذا الميزان إلي2.7 مليار عام2007/2006, وذلك كنتيجة أساسية لتحسن ميزان الخدمات الذي حقق فائضا بلغ11.5 مليار دولار, وذلك برغم ازدياد العجز في الميزان التجاري الذي وصل إلي15.8 مليار, الأمر الذي أدي إلي ارتفاع عجز الميزان التجاري إلي الناتج المحلي من8.1% إلي11.2%, وكلها أمور أدت إلي تحسن أوضاع ميزان المدفوعات ككل, الذي حقق فائضا كليا بلغ5.3 مليار عام2007/2006.وعلي الرغم من النتائج الإيجابية السابقة فإن الوضع الحالي مازال يعاني مشكلات عديدة تأتي علي رأسها البطالة, وعجز الموازنة, والدين العام, وسوء توزيع الدخول, وضعف الإنتاجية, وهي أمور تتطلب إصلاح المسار الاقتصادي الراهن, والسير به في الاتجاهات التي تستطيع علاج هذه المشكلات. وذلك عن طريق رفع الإنتاجية, وزيادة القدرة التكنولوجية للاقتصاد القومي, خاصة بعد أن أصبحت القدرة التكنولوجية للدولة هي المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي خلال الحقبة الحالية,وأصبح المعرفة والعلم هما أساس القدرة التنافسية الجديدة للدولة, وذلك في خضم التغييرات العالمية الجارية حاليا, التي قذفت بالعالم الثالث, ومن ضمنه مصر, إلي أتون التنافس العالمي المرير, الأمر الذي أدي إلي أن تصبح الميزة النسبية للنجاح في الوقت الراهن هي مدي القدرة التكنولوجية والقوة العقلية لدي الدولة المعنية. إذ أدي تسارع خطي الثورة في علم المواد والتكنولوجيا الحيوية إلي إحداث تحولات جوهرية علي المصادر الأربعة التقليدية للنمو: الأرض, والعمل, ورأس المال, والإدارة, التي تضاءلت أهميتها لمصلحة المنهج التكنولوجي, ومستوي التعليم, وهكذا تناقص بشدة استخدام المواد الأولية والمواد الطبيعية بالنسبة للناتج المحلي, وتضاعفت نسبة السلع التكنولوجية المتطورة في التجارة السلعية العالمية.وهكذا عمدت التغييرات الجارية في البنية الاقتصادية إلي نسف استراتيجيات النمو التي كان معمولا بها حتي نهايات القرن الحالي, وأصبح بناء القدرات التكنولوجية المحلية من أولويات معظم الدول, وبالتالي فإذا ما أرادت مصر تحقيق الانطلاقة الكبري لاقتصادها, وأن تجد مكانا متقدما علي الخريطة العالمية. فإنه لا سبيل أمامها إلا بتطوير وبناء قاعدة تكنولوجية محلية.وهكذا فإن جدول أعمال المستقبل حافل بالعديد من القضايا الأساسية والمنهجية التي تحتاج إلي المزيد من التأمل وإعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية, عبر دراسة التاريخ والتحليل العميق لأخطاء الماضي, والابتعاد عن التأكيدات السريعة والمشحونة بالانفعالات, وهكذا يجب البعد عن الأفكار البالية والرجوع عن الكتب العتيقة المتربة, والبحث في آليات جديدة, وهو ما يحتاج وبحق إلي بناء العقل النقدي والخلاق باعتباره إحدي الآليات الداعمة للنهضة المصرية المنشودة. عن صحيفة الاهرام المصرية 3/5/2008