عندما نلقى نظرة تأملية لتاريخ الفكر العربى خلال القرنين الماضيين تنكشف أمامنا الحقيقة الغائبة أو المغيبة أو المسكوت عنها والتى تشير إلى أن هذا الفكر كان ضحية الانتماءات الأيديولوجية التى سيطرت على العقل العربى وأجبرته على قراءة واقعنا وتاريخنا بعيون مؤدلجة تحلقت حول الأفكار والمبادئ الأيديولوجية وإذا كان مسار الفكر العربى قد بدأ بالتوجهات الإصلاحية النهضوية فى القرن التاسع عشر مروراً بالتوجهات الاشتراكية والليبرالية والقومية خلال القرن العشرين إلا أنه لوحظ فشل أغلبها فشلاً كلياً أو جزئياً ونجحت بعضها واقعياً بصورة نسبية وتركت جميعها ميراثا من الأفكار التى لم تصل إلى الجماهير ولم تؤثر فى اتجاهاتها ومواقفها بل ظلت حبيسة داخل جدران وعقول النخب والطلائع المثقفة المعزولة عن جماهيرها. لقد حاولت النخب العربية مواجهة التحدى الحضارى الغربى معتقدين عن حق أن الانجازات التى حققتها الحضارة الغربية فى مختلف المجالات العلمية السياسية والاجتماعية والثقافية ترجع جذورها إلى الحضارة العربية الإسلامية حيث نقل الغربيون علومهم عن العرب ولولاهم ما انجزت أوروبا نهضتها فى مجالات الحرية والمساواة والتسامح وقبول الآخر فضلاً عن قيم التعاون والتكافل والمشاركة التى تعد من صلب الحضارة العربية الإسلامية كذلك انتكست الأفكار الاشتراكية والماركسية رغم تراثها المضئ فكرياً ونظرياً ولكنها لم تحقق أهدافها فى تأسيس بدايات حقيقية للتغيير المجتمعى وفى قلبه العدالة الاجتماعية والطبقية حيث اصطدمت بنظم الحكم المتسلطة فكان مصير المبشرين بالاشتراكية السجون والمعتقلات ثم التهميش والتشريد والمطاردة الأمنية. ولم يتدارك المفكرون الاشتراكيون العرب الخطأ الفادح الذى أفقدهم القدرة على تصحيح مسارهم رغم نبل مقاصدهم وضخامة تضحياتهم من أجل مبادئهم. ويكمن هذا الخطأ فى اقتصارهم على الأطر الفكرية والمبادئ العامة للفكر الماركسى والاشتراكى ولم يحاولوا الاستفادة من استلهام التجارب المماثلة (فى الصين مثلاً) التى استوعبت واقع وتاريخ شعوبها. فيما لم يحاول الاشتراكيون العرب دراسة وفهم التاريخ العربى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى كما لم يحاولوا الاقتراب من دراسة التراث العربى الإسلامى والتعرف على مدى تأثيره على الجماهير العربية. إذ استغرقت الأفكار الماركسية المبهرة حياة اليساريين العرب الذين تمركزوا فى المدن والعواصم دون محاولة النزول إلى الشارع والريف العربى والالتحام بالجماهير ودراسة طبائعهم والتعرف على احتياجاتهم المادية والروحية والتعلم من خبراتهم وتاريخهم الشعبى غير المدون. فضلاً عما أصاب التنظيمات اليسارية من تشرذم وعجز عن التوحد بسبب آفة الانقسامات التى عانت منها جميع التنظيمات الأخرى القومية والليبرالية. أما التيار الليبرالى فقد انحصر فى النخب العربية ولم يتسلل إلى النسيج الاجتماعى والفكرى للأكثرية الشعبية بسبب تركيزه على الحريات السياسية وتجاهله المتعمد للعدالة الاجتماعية التى تمثل الفريضة الغائبة للجموع الشعبية الساحقة والتى لا تزال تحيا على الموروث الثقافى التقليدى وتسيطر على توجهاتها الانتماءات والقيم الطائفية والقبلية والمذهبية وتعانى سياسات الفقر والإفقار المتواصل من جانب الحكومات العربية وحلفائها الطبقيين. وفيما يتعلق بالموروث الدينى فالمعلوم أن كل جيل يتلقى النصوص الدينية فى سياقها التاريخى ويتم تأويلها وتفسيرها فى إطار السياق الذى ظهرت فى أثنائه، ولكن شهد العالم العربى خلال الحقبة العثمانية ركوداً فكرياَ تجسد فى استمرار إغلاق باب الاجتهاد فى الفقه الإسلامى فضلاً عن اختلاط الدين بالسياسة إذ استخدمت حركات وجماعات الإسلام السياسى التأويلات السلفية للنصوص الدينية لتبرير مشروعها السياسى وقد ترتب على ذلك شيوع الجمود الفكرى فى المؤسسات الدينية وظهور أجيال من الأئمة والفقهاء الذين يدينون بالولاء للحكام فضلاً عن عجزهم فكرياً عن تجديد الفقه الدينى يضاف إلى ذلك إسهامهم فى ابتعاد الجموع الساحقة من البسطاء الأميين عن صحيح الدين واستمرار خضوعهم للحكام. فى سياق هذه الخلفية المأزومة برزت منذ ثمانينيات القرن العشرين إشكالية الديمقراطية فى الخطاب السياسى العربى باعتبارها الإشكالية المركزية وتوالت الأبحاث والندوات والمؤتمرات عن إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدنى وحقوق الإنسان العربى. وفى ظل تصاعد اهتمام المثقفين والإعلاميين العرب بالقضايا السياسية توارت القضايا الأخرى مثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماهير أو حقوق المواطنة وتعد هذه الإشكالية جوهر الأزمة التى تعيشها النخب العربية وترتب عليها الخلل والتردى المخيم على المجتمعات العربية قد برزت تجلياته بصورة غير مسبوقة عقب الثورات العربية منذ يناير 2011 والتى جاءت بقدر غير متوقع من الوعود والآمال ولكن كان الاضطراب والدمار والإحباط الذى أعقبها فاتحة لمرحلة جديدة من التساؤلات المنهكة حول مصير الجماهير العربية وحقوقها المشروعة فى العدالة والمواطنة وقدرتها على مواجهة أنظمة القمع والفساد وكيفية التصدى لسيطرة مصالح دوائر المال وأباطرة السوق وسطوة الفقهاء التقليديين الغارقين فى اجترار التأويلات السلفية للدين فضلاً عن استمرار تبعية النخب العربية للفكر الغربى. لمزيد من مقالات د. عواطف عبدالرحمن