ذاقت «المر» فى عصر مبارك وذاقت «الأَمَر» فى عصر الإخوان، فاستحقت لقب «قرية المرار الطافح».. أبوشوشة البلد «العضاضية» إحدى قرى محافظة قنا، فى الصعيد «الشقيق»، العامر بالألم، الغارق فى الإهمال، تئن صباح مساء ولا مجيب، الإناء الفارغ، كالطبل الأجوف يرن كثيرا ويُسمع له، أما إناء قرى الصعيد فهو ملآن بالمآسى، لذا لا تسمع إلا همسا، يتحول أحيانا سيلا جارفا. تتمتع «العضاضية» بموقع فاتن، «ريفيرا» فى حضن النيل الخالد، يلقى عليها ظلا من سحره وروعته، لكن عبقرية الموقع لم تنقذها من الكوارث التى تجمعت عليها، إذ يعاني أهلها تدهورا شديدا في الخدمات المختلفة، مياه الصنبور سوداء اللون، ولأنها لا تصلح لسقاية الحيوانات، لجأ الأهالى إلى المياه الجوفية عن طريق الطلمبات الحبشية، وهى مياه ملوثة بمخلفات الصرف الصحى، المتسرب من «البيارات»، لانعدام «الصرف الصحى» فى القرية من الأساس، بما يجعلها مصدرا للأوبئة الخطيرة، وينذر بكارثة صحية وبيئية، فالموت المفاجئ، بين الصغار والكبار، زائر مقيم بالقرية، لارتفاع معدلات الفشل الكلوى والكبدى وغيرها من الأمراض المتوطنة، فى غياب أبسط صور الرعاية الطبية، الأهالى تقدموا بشكاوى كثيرة، لنقل مأخذ المياه على النيل، إلى مكان أبعد بنحو 100 متر، عن مكانه الحالى فى المياه الراكدة، والتى تتجمع فيها الجيف النافقة، لكن لا حياة لمن تنادى، وأصبحنا بانتظار «برادعة جديدة» فى جوف الصعيد، ستتفاقم فى أى لحظة. المياه القاتلة وغياب الرعاية الصحية وانتشار القمامة فى شوارع دون رصف ودروب فى حالة يرثي، والكهرباء المقطوعة غالبا، كلها تتضاءل أمام المشكلة الأعمق: البطالة الرهيبة التى تقارب 80% من شباب القرية، والقرى المجاورة أيضا، تزدحم بهم المقاهى والطرقات نهارا ومواقع التواصل ليلا، ولأنهم لايجدون ما يفعلون فقد انخرطوا فى العادة الراسخة، أى الخلافات والتعصب القبلى وحمل السلاح لأتفه الأسباب، فلا مركز شباب فى القرية ولا ناد رياضى ولا قصر ثقافة ولا أحزاب سياسية..ولا..إلخ. نساء القرية لا يقربن الحقول، إما لأنها زالت بالتوسع العمرانى، وإما لانعدام فرص العمل للرجال أنفسهم، معظم سكان القرية من البسطاء والأجرية، ليس لهم دخل ثابت مما يجعلهم غير خاضعين لأي نظام تأميني أو مصدر دخل فى ظل فقر رهيب، تحولت خطوطه المحفورة على وجوههم إلى أخاديد، ودون مبالغة هى واحدة من أشد القرى فقرا على مستوى الجمهورية، لا تختلف أوضاعها عن أفريقيا جنوب الصحراء أو أشد سوءا، غالبية الناس فيها يعانون شظف العيش وضيق الحال، ومع تآكل الرقعة الزراعية تماما لا حل «مبدئيا» إلا فى مشروع أو عدة مشروعات أو إجراءات «عاجلة» من جانب الحكومة، تخفف حدة البطالة المستفحلة، وتعطى أملا لهؤلاء العاطلين من الشباب المتعلمين، فالوظائف المتدنية إن وجدت تنال بشق الأنفس وبأشد الطرق مرارة وإذلالا، أما الوظائف العليا، كسلك القضاء والشرطة فهى محجوزة للصفوة والمقتدرين، لأنها مرغوبة للوجاهة والمنازعة على الزعامة بين العائلات والعشائر والبلدات..! مأساة «العضاضية» طالت القلوب والعقول، فى العهود المنقضية، فتوقف ناسها عن المطالبة بخدمات من صرف صحى أو مياه نظيفة أو كهرباء، أو طرقا مرصوفة، لم يعودوا يحتاجون لأبسط قواعد الحياة الآدمية، اكتفوا بالحياة على الحافة، واعتادوا التجاهل الحكومى، وكأنهم ليسوا جزءا من المحروسة.. وللإنصاف كان هذا حال الصعيد كله، أياما متشابهة عابرة للأزمان: نهار وليل وشروق وغروب وعجز شامل عن تغيير حاضر مقلق وخوف نافذ من المستقبل، وبالنسبة لأهل الحكم فى القاهرة، كان الشعار «نكفى علي الصعيد ماجور» دون محاولة جادة (ومطلوبة) لإدراك دقائق الحياة فيه، واكتفى الجميع بالمشاهد السينمائية والمسلسلات الفانتازية التى تقدم الصعيدى وكأنه مخلوق من كوكب آخر، مثير للدهشة أو السخرية.. ما بين الجيزة و أسوان (قبلى الجنينة ورايح) منطقة ممتدة على ثلثى وادى النيل، مسكونة بنحو ثلث السكان، تاريخها وتركيبتها الاجتماعية وحالتها الاقتصادية البائسة تجعلها «إناء مملوء» بالمشكلات والتوترات والاحتقانات، فالبخار الهادر مكتوم تحت قشرة هشة، من الإهمال السلطوى والغياب الشامل للتنمية.. اليوم عهد جديد، تبدو الدولة عازمة على تغيير نهجها، والاعتناء بهذه القطعة الغالية من بر مصر، تدشين المثلث الذهبى واستصلاح الأراضى والطرق وغيرها من المشروعات، الرئيس السيسى جعل أولوية عمل صندوق «تحيا مصر» تطوير العشوائيات ومساعدة المناطق المحرومة والمهمشين، المهندس إبراهيم محلب «الراجل الشغيل» وعدد من الوزراء زاروا أخيرا قنا، إحدى المحافظات الأكثر فقرا، المحافظ عبدالحميد الهجان يحظى بتقدير واسع بين سكان الإقليم، بمجهوده الملموس.. كل هذا «بشرة خير» لأهالى أبوشوشة البلد «العضاضية» والقرى المجاورة، الذين استغاثوا ب «الأهرام» لكشف الغمة، والأمل معقود على الحكم الحالى، لتخفيف حدة المأساة عن أهالى القرية وما حولها، وعلاج هذه الأمراض المزمنة، التى تشكل جراحا مؤلمة تنزف فى صمت، وإلا فإن ما زرعته الأنظمة الماضية من أمراض وتخلف وتهميش سوف يونع ثمارا مسمومة، لو استمر التجاهل، تستغله التيارات المتأسلمة، الصعيد ربما يكون الآن أخطر بقعة فى مصر الثائرة وأفضل مكان للفرص الواعدة. فهل يستمع الهجان ويستجيب محلب. [email protected] لمزيد من مقالات محمد حسين أبوالحسن