ليسمح لي شبابنا الإسلاميون بأن أطرح عليهم شعارا أراه ضروريا إلى أبعد حد في حياتنا الراهنة: قليل من الشك يصلح العقل! فالشك ليس دائما هداما، وليس دائما إنكارا سلبيا، وإنما هو وقفة تساؤل لا بد منها قبل الوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة. هكذا وجه حديثه للشباب المفكر والفيلسوف المصري د .فؤاد زكريا الذي انتقل إلى جوار ربه منذ خمس سنوات في مثل هذا اليوم 11 مارس 2010، يقول أستاذنا الكبير إن المشكلة الكبرى لدى هذه الألوف المؤلفة من الشبان والفتيات الذين يدينون بالولاء لتيار من التيارات الإسلامية المعاصرة، تكمن في أنهم يتصورون أن خير مسلك يبدأ به المرء حياته هو أن يصل إلى يقين كامل، ويجد إجابات جاهزة عن كل سؤال، ويزيح عن عقله عبء التساؤل والنقد. وتلك في رأيه بداية لا تبشر بالخير للفرد الذي يعتنقها، ولا للأمة التي يكثر فيها أمثال هذا الفرد. ففي عالمنا هذا، عالم الإبداع والابتكار والتغير الذي لا ينقطع، عالم التنافس الرهيب على الفكرة الجديدة والممارسة غير المألوفة، لا بد أن تسحق عجلة التقدم كل من يبحث قبل الأوان عن يقين مطلق وحقيقة نهائية يوقف بعدها عقله ويتصور أنه اهتدى إلى جميع الإجابات. فاليقين، إذا أتى، ينبغي ألا يأتي إلا في النهاية، أما في البداية، وخلال الرحلة الطويلة، فإن الروح النقدية المتسائلة المدققة هي الدليل الذي لا غناء عنه لمن يريد حقا أن يعيش عصره دون أن يخدع نفسه أو يدفن رأسه في الرمال.
وقد دعى الشباب المنخرطون في سلك الجماعات الإسلامية إلى أن يخرجوا، ولو للحظات قصار، من إسار القوالب التي حصرهم فيها موجهوهم الروحيون، كي يتأملوا فيما كان يمكن أن تكون عليه البشرية لو كان «اليقين» هو الذي حكم موقفها العقلي منذ بداية حضارتها حتى اليوم. إن عصور «اليقين» في حياة البشر كانت عصور الانحطاط: ففي عهود الفكر البدائي كانت الاساطير تشكل يقينا لا يتطرق إليه أي شك. وفي العصور الوسطى الأوروبية – عصور الظلام – كان اليقين هو الحالة العقلية السائدة: يقين الحقائق المقدسة كما تفهمهما الكنيسة، ويقين المعرفة كما تجمدت فيما عرفوه من كتابات الفلاسفة اليونانيين. وعلى العكس من ذلك كانت عصور الشك والتساؤل هى عصور التقدم والنهضة والوثبات الكبرى إلى الأمام: هكذا كان العصر اليوناني القديم، وهكذا كان موقف كثير من علماء الإسلام ومفكريه، وهكذا كان عصر النهضة الأوروبية، بل عصور النهضة في كل مكان.
إن التعصب لوجهة نظر دينية واحدة، بل لاتجاه طائفة أو جماعة معينة، يلحق بالعقل تشوهات خطيرة، ليس أقلها ذلك الانغلاق الفكري الذي يوهم المرء بأنه هو الذي يملك الحقيقة كاملة، وبأن كل من لا يسيرون في طريقه على باطل. هذا الإحساس باليقين المطلق شديد الخطورة على التكوين العقلي للإنسان، وخاصة إذا تملكه وهو لا يزال في شبابه المبكر. ومن المؤسف أن هذا الاحساس لا يقتصر تأثيره على المسائل الدينية وحدها، بل إنه يمتد إلى كافة جوانب حياة الإنسان. وهكذا تجد الشاب الذي يخضع لمثل هذه المؤثرات ميالا إلى الجزم والتأكيد القاطع في كل شئ، لا يؤمن بتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، بل يريد في كل الأمور رأيا واحدا وإجابة نهائية يرتاح إليها ويتوقف عندها ويكف بعدها عن التساؤل. وحين تصبح هذه عادة عقلية مستحكمة فإنها تطمس الروح النقدية وتهدم القدرة على الابتكار وتجعل من التجديد آفة ينبغى تجنبها، ومن الإبداع بدعة لا بد من محاربتها.
هذا بعض ما كتبه د.فؤاد زكريا رحمه الله في كتابه القيم «الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة» والذي نوصي كل شاب بقراءته بتمعن ودراسته بجدية، ففيه رسالة من مفكر كبير عُرف بشجاعة العقل والضمير للتبصر وتحكيم العقل والمصلحة الوطنية في كل ما يمس قضايانا الجوهرية.