هل بالإمكان أن ننشئ جسرا منيعا من التواصل والتفاهم ونساهم في خلق جو من الثقة وفي صنع السلام بين البشر إن لم نبادر نحن المفكرين لإقامة ذلك الجسر على أساس من الصراحة والموضوعية والعقلانية في الطرح والتحليل؟ لا بد أن يكون الجواب على هذا التساؤل إيجابيا، لأنه على الأقل ليس هناك ما نخشاه إذا ما تحلينا جميعا في لقاءاتنا هذه بأخلاقيات الحوار وما تقتضيه من التزام بالعقلانية والموضوعية والصراحة، خاصة ونحن في جمع من المتخصصين ومن رجال الفكر الذين لا أظن أنهم يرضون لأنفسهم أن يُحلّوا بهذا الوصف إن لم يمارسوا النقد الذاتي ويتحلوا بفضيلة الحوار والاعتراف بالآخر المخالف، ويتمسكوا قدر المستطاع بالاستقلال عن كل سلطة إلا سلطة الحقيقة التي تلزمهم بالبحث عن الحق والإصداع به. إذ لا يجوز أن يتحول المطلب التنظيمي لهذا الحوار في "مؤسسات" إلى مجرد ذريعة للتوجيه والتأثير وللنيل من استقلالية المفكر التي لا قيام لحوار حقيقية إلا بها. إشكالية المسلمات وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقليا في المسلمات بادئا من نقطة الصفر المعرفية (على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة)، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك، والكفر بالحق كمفهوم مجرد. فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان، يذهب خُمسه تقريبا (20 عاما) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف. كما أن عمر الإنسان يذهب ربُعه أو أكثر قليلا (25 – 30 عاما) في النوم. وكل استثناء من هذه المتوسطات – زيادة أو نقصا – يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها. فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره (50 إلى 55 عاما) في البحث العقلي المجرد عن اليقين، دون أن تشغله معايش أو عوارض (عمل – طعام – راحة – مرض.. ..) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق. ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهما لا يدرك. ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها، فالمسلمات جزء من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان. وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية. ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة، فحتى الآن على الأقل، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل. فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك: أولا، أنه عقل، وأنه يعقل، وأن يدرك كذلك كيفية – أو كيفيات – التعقل ولوازمه (المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين – المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير...)، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل (الإدراك) ومزالقه، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله، أو يظن أنه يعقله. ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقينا. وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضا عمن سبقوهم... وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل. لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض. فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان، تكذبه معطيات كثيرة، فضلا عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس، فكلاهما غيب. والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية. أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي “مسلمات”، فهو، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله: “ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي”، “وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أيا كان“. وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق. وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي. المنهج والحضارة العقل كطريق لإدراك الموجودات وصولا إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات. وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري والقيمي، فهو سابق على المنهج، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه، وهي تأثيرات تثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير. وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل، وتأويل ما يقبل التأويل منه، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل. وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل. أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام، وتحار في الإحاطة به، على وجه الدقة، الإفهام. فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة. وهو معين على تذوق النقل، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل. ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل، أو عقل، أو تجربة. والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك“. والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس، بسيط أو مركب، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء، يقتضي أن يدرك العقل معاني: المقدمة، والنتيجة، والحالة الفردية، واللزوم، والجوهر، والعرض، والمتعين، والمجرد، والقانون العام، والثابت، والمتغير. . . . . . .وهنا نصبح أمام “الدور” ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين، فيعود الوحي للهيمنة على العقل. والحديث هنا ليس عن تأسيس السياسة على انتماء ديني بل عن تقدير لضرورة تأكيد الصلة بين عالمي الغيب والشهادة على سبيل التكامل لا على سبيل التنازع ولا التنافي، وما علمتنا إياه خلاصة تجربة العقود الماضية أن محاولات إخلاء المجال العام – بالقوة – من أثر للغيب فتح الباب لصراع هوية مرير ولم يفلح في تحقيق الهدف الوحيد الذي رفعه: الاستقرار! والغيب هنا يشير إلى الإيمان الديني (الإسلامي والمسيحي) كقوة التزام أخلاقي وإنساني لا كقيد تشريعي أو تصنيف عقدي على الإطلاق. وفي اعتقادنا أن بإمكان المفكر المسلم المساهمة الإيجابية في مد جسور من ذلك "التعارف" الإنساني انطلاقا من قيمه الاجتماعية والدينية التي تناديه دوما أنه "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين" . وبموجب هذه الآية فإن الكف عن العدوان العقدي وعن العدوان السياسي، خاصة في أجلى مظاهره وهو الاستعمار والطرد من الأرض، إن الكف عن ذلك كفيل بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التفاهم، وجسور من التسامح والتعايش بقصد التساكن "والتبشير" بغد أفضل وبتاريخ مفتوح، لا بحرب آخر الزمان! ولا ريب أن المفكر المسلم المعاصر يتحمل مسؤولية إعادة بناء هذه المفاهيم والقيم الإيجابية في ثقافته الإسلامية خدمة للحضارة الإنسانية جمعاء، بعيدا عن الأهداف الإيديولوجية والتوظيفات السياسوية والتسيب الفكري الذي قد يطال تلك المفاهيم./. ---------- خبير في القانون العام