مشكلة الألوف الذين يدينون بالولاء للتيارات الإسلامية تصورهم ضرورة بدء الحياة بيقين كامل ليسمح لى شبابنا الإسلاميون أن أطرح عليهم شعارًا أراه ضروريًّا إلى أبعد حد فى حياتنا الراهنة: قليل من الشك يصلح العقل! فالشك ليس دائما هدامًا، وليس دائما إنكارا سلبيا، وإنما هو وقفة تساؤل لا بد منها قبل الوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة. هكذا وجه حديثه للشباب المفكر والفيلسوف المصرى د. زكريا الذى انتقل إلى جوار ربه منذ أربع سنوات «11 مارس 2010»، يقول أستاذنا الكبير إن المشكلة الكبرى لدى هذه الألوف المؤلفة من الشبان والفتيات الذين يدينون بالولاء لتيار من التيارات الإسلامية المعاصرة، تكمن فى أنهم يتصورون أن خير مسلك يبدأ به المرء حياته هو أن يصل إلى يقين كامل، ويجد إجابات جاهزة عن كل سؤال، ويزيح عن عقله عبء التساؤل والنقد. وتلك فى رأيه بداية لا تبشر بالخير للفرد الذى يعتنقها، ولا للأمة التى يكثر فيها أمثال هذا الفرد. ففى عالمنا هذا، عالم الإبداع والابتكار والتغير الذى لا ينقطع، عالم التنافس الرهيب على الفكرة الجديدة والممارسة غير المألوفة، لا بد أن تسحق عجلة التقدم كل من يبحث قبل الأوان عن يقين مطلق وحقيقة نهائية يوقف بعدها عقله ويتصور أنه اهتدى إلى جميع الإجابات. فاليقين، إذا أتى، ينبغى ألا يأتى إلا فى النهاية، أما فى البداية، وخلال الرحلة الطويلة، فإن الروح النقدية المتسائلة المدققة هى الدليل الذى لا غناء عنه لمن يريد حقا أن يعيش عصره دون أن يخدع نفسه أو يدفن رأسه فى الرمال. وقد دعا الشباب المنخرطين فى سلك الجماعات الإسلامية إلى أن يخرجوا، ولو للحظات قصار، من أَسر القوالب التى حصرهم فيها موجهوهم الروحيون، كى يتأملوا فى ما كان يمكن أن تكون عليه البشرية لو كان «اليقين» هو الذى حكم موقفها العقلى منذ بداية حضارتها حتى اليوم. إن عصور «اليقين» فى حياة البشر كانت عصور الانحطاط: ففى عهود الفكر البدائى كانت الأساطير تشكل يقينا لا يتطرق إليه أى شك. وفى العصور الوسطى الأوروبية -عصور الظلام- كان اليقين هو الحالة العقلية السائدة: يقين الحقائق المقدسة كما تفهما الكنيسة، ويقين المعرفة كما تجمدت فى ما عرفوه من كتابات الفلاسفة اليونانيين. وعلى العكس من ذلك كانت عصور الشك والتساؤل هى عصور التقدم والنهضة والوثبات الكبرى إلى الأمام: هكذا كان العصر اليونانى القديم، وهكذا كان موقف كثير من علماء الإسلام ومفكريه، وهكذا كان عصر النهضة الأوروبية، بل عصور النهضة فى كل مكان. إن التعصب لوجهة نظر دينية واحدة، بل لاتجاه طائفة أو جماعة معينة، يلحق بالعقل تشوهات خطيرة، ليس أقلها ذلك الانغلاق الفكرى الذى يوهم المرء بأنه هو الذى يملك الحقيقة كاملة، وبأن كل من لا يسيرون فى طريقه على باطل. هذا الإحساس باليقين المطلق شديد الخطورة على التكوين العقلى للإنسان، وخصوصا إذا تملكه وهو ما يزال فى شبابه المبكر. ومن المؤسف أن هذا الإحساس لا يقتصر تأثيره على المسائل الدينية وحدها، بل إنه يمتد إلى كل جوانب حياة الإنسان. وهكذا تجد الشاب الذى يخضع لمثل هذه المؤثرات ميالا إلى الجزم والتأكيد القاطع فى كل شىء، لا يؤمن بتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة، بل يريد فى كل الأمور رأيا واحدا وإجابة نهائية يرتاح إليها ويتوقف عندها ويكف بعدها عن التساؤل. وحين تصبح هذه عادة عقلية مستحكمة فإنها تطمس الروح النقدية وتهدم القدرة على الابتكار وتجعل من التجديد آفة ينبغى تجنبها، ومن الإبداع بدعة لا بد من محاربتها. هذا بعض ما كتبه د. زكريا رحمه الله فى كتابه القيّم «الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة» الذى نوصى كل شاب بقراءته بتمعن ودراسته بجدية، ففيه رسالة من مفكر كبير عُرف بشجاعة العقل والضمير للتبصر وتحكيم العقل والمصلحة الوطنية فى كل ما يمس قضايانا الجوهرية.