"اتفاق مينسك-2" جاء تكميليا لاتفاق "مينسك-1" الموقع فى سبتمبر الماضى بمبادرة من الرئيس فلاديمير بوتين، والذى لم يلتزم به الجانب الأوكرانى بإيعاز من الولاياتالمتحدة. ولما كان الواقع يقول بصعوبة التوصل إلى حل لأى قضايا إقليمية أو عالمية دون روسيا، فقد عادت الدوائر الغربية إلى اللجوء مجددا إلى بوتين بحثا عن حلول ناجعة للموقف الراهن فى أوكرانيا . ورغم تواصل المحاولات الرامية إلى الإطاحة ببوتين والتقليل من شأن بلاده، من خلال العقوبات الاقتصادية وفرض عزلته والعديد من رفاقه فى النسق الأعلى للسلطة، فقد عادت هذه القوى لتنشد لقاءه ووساطته بحثا عن مخرج من الأزمة الراهنة فى أوكرانيا. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومعها الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند جاءا إليه فى موسكو ينشدان وساطته، ليعودا ويلتقيا معه الأسبوع الماضى فى مينسك لبحث آفاق التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية مع رئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو، بعيدا عن أى إشارة إلى مسألة "ضم القرم إلى روسيا"، والتى لم يجر التطرق إليها فى كل المباحثات انطلاقا من تمسك روسيا بعدم مناقشة أى قضايا تخص مناطقها وأقاليمها مع أى "جهة أجنبية". خرج الرئيس فلاديمير بوتين إلى الصحفيين الذين كانوا سهروا ليلتهم انتظارا لنتائج مباحثات مضنية، طالت لما يقرب من 16 ساعة فى قصر الاستقلال فى مينسك عاصمة بيلاروس، بين زعماء "رباعية نورماندى" - ممثلى روسيا وأكرانيا وفرنسا وألمانيا. استهل بوتين حديثه بقوله:" إن الليلة الفائتة لم تكن أسعد الليالى فى حياته!.". ومضى ليلقى بتحية الصباح بعد ليلة "ليلاء" لم يغمض فيها للزعماء ومرافقيهم جفن، مؤكدا أن الصباح يحمل "الخير" رغم كل المتاعب التى تناثرت على الطريق، ولما حمله من نتائج إيجابية لمباحثات كاد عقدها ينفرط أكثر من مرة. أماط بوتين اللثام عما أقض الزعماء الأربعة وأرهقهم طوال الساعات الست عشرة التى استغرقتها مباحثات "رباعية نورماندى". أشار إلى ما خلص إليه زعماء روسياوأوكرانيا وألمانيا وفرنسا من نتائج يعرفها العالم اليوم تحت اسم "مينسك-2" ، تمييزا عن "اتفاقات مينسك -1"، التى تمخض عنها اجتماع مجموعة الاتصال التى تشكلت من ممثلى مقاطعتى لوجانسك ودونيتسك وأوكرانيا، وكذلك ممثلو روسيا، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبى، فى سبتمبر من العام الماضى، ولم يلتزم بها الأطراف المتنازعة فى أوكرانيا .
كشف بوتين عن اتفاق "الزعماء الأربعة" حول وقف إطلاق النار فى شرق أوكرانيا اعتبارا من منتصف ليل 15 فبراير، وسحب الأسلحة الثقيلة بين الجانبين فى غضون أسبوعين، إلى جانب إقرار السلطات الأوكرانية للعفو العام عن المشاركين فى العمليات القتالية فى منطقتى دونيتسك ولوجانسك، وإطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين خلال 5 أيام بعد سحب القوات، إلى جانب تأمين نقل المساعدات الإنسانية إلى شرق أوكرانيا، واضطلاع السلطات الأوكرانية بواجباتها تجاه تأمين الحقوق الاجتماعية الاقتصادية لسكان شرق أوكرانيا، مع الاعتراف بكامل سيادتها على الحدود فى مناطق النزاع بعد إجراء انتخابات محلية، وسريان العمل بموجب هذه التسوية السياسية، التى تنص ضمنا على حق دونيتسك ولوجانسك فى تشكيل مؤسساتها الأمنية والتشريعية والقضائية، فضلا عن إقرار وضعية اللغة الروسية، والاعتراف بالوضعية الخاصة لمنطقة الدونباس. وينص الاتفاق كذلك على "سحب جميع التشكيلات الأجنبية المسلحة والأسلحة الثقيلة والمرتزقة من الأراضى الأوكرانية، تحت مراقبة منظمة الأمن والتعاون الأوروبى، ونزع سلاح كل المجموعات غير الشرعية". وفيما اضطرت السلطات الأوكرانية وعلى مضض إلى قبول بنود اتفاق "مينسك-2"، أعلن عدد من فصائل القوميين المتشددين ومنها "القطاع الأيمن" بزعامة دميترى ياروش عن رفضه الالتزام ببنود "اتفاق مينسك-2" ، وتأكيد رفضهم وقف إطلاق النار، بل وخرج عدد من ممثلى السلطات الرسمية، ومنهم بافيل كليمكين وزير الخارجية الأوكرانية ليؤكد شكوكه تجاه الالتزام ببنود الاتفاق، ما أسهم فى إثارة المخاوف تجاه احتمالات تجدد المواجهة المسلحة، ما يمكن أن يكون مقدمة لجولة من الصراع أكثر سخونة وخطورة على ضوء احتدام العلاقات بين موسكووواشنطن وعدد من حلفائها الغربيين.
على أن ما أعرب عنه عدد من السياسيين من شكوك تجاه نجاح هذا الاتفاق يقول إن واشنطن لا تزال تقف وراء عرقلة الجهود الرامية إلى بلوغ تسوية سلمية بما تقوم به من خطوات وتطلقه من وعود حول تسليح أوكرانيا . وكان الرئيس أوباما، وفى حضور المستشارة ميركل فى واشنطن، أوضح باحتمالات إمداد أوكرانيا بالأسلحة وهو ما عارضته ميركل على استحياء، نظرا لإدراكها أن الحرب وفى حال اشتعالها على مقربة من الحدود الأوروبية لن تطول سوى أطراف الثوب الأوروبى.
إزاء كل ذلك تواصلت الاتصالات بين زعماء "مجموعة نورماندى" لبحث آخر تطورات الأوضاع بعد ظهور البوادر التى تؤكد التزام الجانبين المتحاربين ببند وقف إطلاق النار، فيما كشفت الإدارة الأمريكية عن اتصال هاتفى أجراه الرئيس باراك أوباما حديثه مع نظيره الأوكرانى بيترو بوروشينكو، وأعرب فيه عن قلقه تجاه الأوضاع فى منطقة ديبالتسوفو التى تحاصر فيها قوات الدفاع الذاتى الآلاف من جنود القوات الحكومية، إلى جانب تطرقه إلى الأوضاع الاقتصادية فى أوكرانيا وما وعد به البنك الدولى من مساعدات اقتصادية، وكذلك المسائل المتعلقة بخطة الإصلاحات الاقتصادية هناك، مؤكدا الدعم والوقوف إلى جانب أوكرانيا. وفى بيان أصدره بهذا الشأن أشار الجهاز الصحفى للرئيس الأوكرانى إلى أن بوروشينكو أعرب عن شكره لنظيره الأمريكى لقاء تأييده الشخصى لأوكرانيا، وموقفه الصلب الذى أعرب عنه فى إطار بيان "السبعة الكبار". وأضاف أن الرئيس الأوكرانى تطرق فى حديثه مع أوباما إلى ضرورة رقابة منظمة الأمن والتعاون الأوروبى، ومتابعتها لسير تنفيذ وقف إطلاق النار. ومن اللافت أن بوروشينكو كان قد اتخذ موقفا مغايرا من مسألة إرسال قوات لحفظ السلام والرقابة على سير تنفيذ اتفاق "مينسك-2" فى منطقة جنوب شرق أوكرانيا، وهو ما فسره فياتشيسلاف نيكونوف عضو مجلس الدوما الروسى بقوله إن بوروشينكو يستند فى رفضه لقوات حفظ السلام من عدم اعترافه بخصومه فى جنوب شرق أوكرانيا واعتبارهم "إرهابيين" أطلق ضدهم حملته العسكرية التى تحمل اسم "العمليات المناهضة للإرهاب".
وكان الرئيس الأوكرانى بوروشينكو أول من آثار الشكوك تجاه احتمالات عدم الالتزام ببنود "مينسك-2" حين بادر فور عودته من مينسك بعد توقيعه على تلك الاتفاقات، بمكافأة مقاتلى الحرس الوطنى الأوكرانى، فيما وعدهم بإمداد القوات الحكومية فى منطقة العمليات مع جنوب شرق أوكرانيا بالجديد من إمدادات الأسلحة والمعدات العسكرية. وكانت القوات الحكومية الأوكرانية واصلت قصف المواقع المدنية والعسكرية فى مناطق جنوب شرق أوكرانيا، واستمرت فى محاولاتها الرامية إلى فك الحصار عن وحداتها التى تظل رهينة قيد قوات خصومها للشهر الثانى على التوالى فى منطقة ديبالتسيفو . وذلك يقول إن الاتفاق يلقى المقاومة سياسيا من جانب مجلس الرادا، واقتصاديا من جانب الحكومة، وعسكريا من جانب القوات المسلحة، ما يوحى بالكثير من المتاعب على طريق التنفيذ.
ولعل ذلك تحديدا ما دفع روسيا إلى الدعوة لعقد اجتماع لمجلس الأمن الدولى بهدف الدعوة ل "التطبيق الكامل" لاتفاق وقف إطلاق النار فى شرق أوكرانيا. ونقلت وكالة "سبوتنيك" الإعلامية الروسية عن مصادر فى الوفد الروسى تصريحاتها حول "أن الغاية من تبنى القرار تتمثل فى اعتماد المجلس للاتفاق حول تهدئة الوضع فى شرقها وإطلاق عملية التسوية السياسية".
على ان ما توالى من أحداث خلال الأيام القليلة الماضية يقول إن هناك فى واشنطن من يبدو أكثر حرصا على إثارة القلاقل فى المناطق المجاورة للحدود الروسية، إدراكا من جانبه أن نجاح تنفيذ "مينسك-2" يعنى عمليا أن أوروبا فى سبيلها إلى التخلى عن الكثير من الضغوط الأمريكية، بما يعنى بالتبعية العودة إلى التقارب مع روسيا. وذلك يقول أيضا بالكثير من المخاوف من احتمالات عدم الالتزام بالاتفاق الذى كان ولا يزال هناك من يقول إن نجاح تطبيقه، يمكن أن يكون مقدمة لأحداث أخرى قد تساهم فى تحديد أهم الملامح السياسية لمستقبل المنطقة فى الفترة القريبة المقبلة.