لماذا كل هذه الضجة المثارة حول تجديد الخطاب الدينى؟ ولماذا لا نسأل: هل نحن محتاجون بالفعل إلى تجديد الخطاب؟ ألا يكفى أن تقوم الحكومة بالتنمية وتؤدى المؤسسات عملها ويلتزم المواطنون بالقوانين، فينصلح حال المجتمع، وحينئذ يمكننا أن نترك الخطاب الدينى فى شأنه؟ سوف يرد الكثيرون - وهم على حق - بأننا لن نصل إلى التنمية والأداء الجيد للمؤسسات والالتزام بالقانون إلا إذا تجدد الخطاب الدينى أولا، نظرا لأنه يُعد حتى الآن الموجه الرئيسى لسلوك غالبية المصريين.تفهم حريصون دائما على الحصول على تصديق رجال الدين على أى مطلب تطلبه منهم الدولة من أول سداد الضرائب وتنظيم النسل حتى جواز الغش فى الامتحانات. ولكن ما المقصود بتجديد الخطاب الدينى؟ تتراوح الإجابة بين من يرون، كما كان يروج الدعاة الجدد، أن تجديد الخطاب الدينى معناه الانتقال من استخدام اللغة العربية الفصحى إلى استخدام اللغة العامية عموماً ولغة الشباب بوجه خاص. أما من هم أصحاب النظرة الأكثر عمقاً فيرون أن الأمر لا يتعلق بلغة الخطاب انما يتعلق بمضمون الخطاب، أى بما يحمله من أفكار، وهم يريدون بذلك أن يكون لدينا رجال دين قادرون على إصدار فتاوى عصرية مثل تفهم طبيعة التطورات التى مرت بها البشرية وأصبحت تميز عالمنا المعاصر مثل حرية الأفراد، ودولة المواطنة، والتعايش السلمى بين الشعوب. وهناك من هم أكثر عملية فيطلبون من المثقفين صياغة مجموعة من الشعارات العامة مثل أن الاسلام يتفق وحقوق الانسان ويدعو إلى الديمقراطية ويقبل بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة والمسلم والمسيحي، ويقوم رجال دين مستنيرون بوضعها فى القالب الفقهى الملائم، ثم يتحول كل ذلك إلى مناهج ودورات تدريب للدعاة وخريجى الكليات الدينية. رغم نبل هذه الأمنية، فإن تحقيقها ليس مضموناً، لأننا نتصور أنه بتوسلنا وإلحاحنا فى التوسل إلى رجال الدين، فإنهم فى النهاية سوف يتعطفون علينا ويصدرون لنا فتاوى مريحة تجعلنا نعيش حياة عصرية هانئة، ونضمن فى الوقت نفسه النجاة فى الآخرة. لقد عرفت جميع المجتمعات على اختلاف أديانها وثقافاتها، بصورة أو بأخري، هذا الصراع بين الجمود العقائدى واقتضاءات التطور. وكان دأب رجال الدين فى العادة هو استغلال الأزمات مثل الهزائم والأوبئة لمطالبة الناس بالعودة إلى ما تخلوا عنه تحت وطأة التطور الاجتماعي. وبالرغم من كل ذلك يحدث تجديد فى الخطاب الدينى، ويمكننا أن نميز بسهولة بين رجل دين يعيش معنا عصرنا ويعى مشكلاته وآخر يتحدث وكأنه يعيش فى العصور الوسطى. ويكفى لكى نقف على حجم التطور الذى حدث فى الخطاب الدينى أن ننظر إلى ما حدث فى أوروبا. هل قرأتم فى كتب التاريخ عن حرق الساحرات، تلك الممارسة التى كانت تتم بشكل شبه يومى فى أغلب مدن وقرى أوروبا فى العصور الوسطي، حيث كان رجال الكنيسة، تطبيقاً لآية فى العهد القديم تقول: زلا تدع ساحرة تعيشس يتهمون إحدى النساء بالسحر، ويقومون بإعداد مسرح مكشوف لحرقها على مرأى من جمهور مستمتع ومتحمس. كانوا يعتبرون ما يقومون به تنفيذا لأوامر الله، ويتهمون من يطالبهم بالكف عن ذلك بتعطيل النص والخروج عن صحيح المسيحية، أى يتهمونه بالهرطقة ويحكمون عليه بالحرق هو الآخر. واستمرت هذه الممارسة قرونا عديدة. اليوم لم نعد نسمع عن شيء من ذلك، لقد تجدد إذن الخطاب الدينى فى أوروبا، ولكن كيف حدث ذلك؟ لم يصبح رجال الدين المسيحى عصريين، يكفون عن حرق الساحرات ومحاكمة العلماء ومطاردة الفنانين نتيجة لتوسل الشعب أو نتيجة لتكليف من الحكام لهم بأن يغيروا خطابهم. ولكنه حدث نتيجة للجرأة وعدم الخضوع لفتاوى رجال الدين. فقد أصر العلماء على البحث العلمى المتحرر من أى سلطة دينية، ولم يطلب الفنانون من رجال الدين المستنيرين أن يضعوا قواعد متسامحة للفن، وقام المفكرون والفلاسفة بنقد كثير من الخرافات التى كان رجال الدين يحيطونها بهالات من القداسة، وقام الأفراد بالتصرف فى كل مجالات الحياة الاجتماعية دون وصاية من أحد، لقد وصلوا إلى سن الرشد أى يتصرفون بوحى من ضمائرهم ويتحملون تبعة تصرفاتهم. واسست الدولة شرعيتها على اختيار الشعب وليس على مباركة البابا. كما قامت الدولة بإنشاء التعليم العام الذى يدعم مبدأ المواطنة وقيم الانتماء للأمة بين جميع التلاميذ على اختلاف أديانهم. واهتمت المدارس المدنية التى تمولها الدولة بتوجيه التلاميذ إلى التفكير طبقاً للمنهج العلمى وإلى تحصيل المعارف المختلفة. انتقل رجال الدين زمنا إلى الهجوم الفكرى على كل هذه المظاهر، وكانت الدولة قد أوقفت بفضل القانون والتمسك بتطبيقه، سلطة رجال الدين فى ايذاء المواطنين. هنا، وهنا فقط قام رجال الدين بتجديد خطابهم. ربما ترون أن هذا مسار طويل قد استغرق قرونا. ولكن نفس السيناريو تكرر فى اليابان الحديثة، واستغرق الأمر لحسمه سنوات معدودة، بفضل تبنيهم نظام حكم حديثا ودستورا يحمى حقوق الأفراد وحرياتهم. إن حرية التعبير هى الشرط الأساسى لتجديد الخطاب الدينى. لمزيد من مقالات د.انور مغيث