لطالما انشغلت بسؤال لماذا تمدد الآخرون فى ديارنا؟ وهآنذا أعود إليه بعد أن أصبح أكثر إلحاحاً وأشد خطورة. وهل هناك أشد خطورة من مشهد إراقة الدماء الزكيّة لجنودنا فى سيناء على يد إرهاب تسلّل بليلٍ عبر حدودنا؟ هل هناك كارثة أكبر من أن يصحو العرب كل يوم على صوت انفجار هنا أو مذبحة هناك او إرهاب أعمى البصر والبصيرة يقتل بنى جلدته متعامياً (فى خِسّة وجبن) عن العدو الذى اغتصب الأرض وسرق الأوطان؟ اليوم تبدو الحقيقة ساطعة . لم يتمدد الآخرون فى ديارنا إلا بسبب هذا الفراغ العربى الموحش. ربما يتساءل البعض أى فراغ هذا بينما صوت الفوضى والصراع والحروب الأهلية يدوى فى أكثر من بلد عربى؟ والحقيقة أن هذا هو مشهد الفراغ بعينه. وما صوت الفوضى والحروب سوى تعبير مجنون عن هذا الفراغ. أربع مفردات (مفاتيح) يمكن أن تسعفنا فى تفكيك عبارة «تمدّد الآخرون فى بلاد العرب بسبب الفراغ». (التمدد) هو محاولة التأثير والهيمنة فى بلاد العرب سواء بدافع استراتيجى أو سياسى أو اقتصادي. تمددٌ يبدو خشناً مسلحاً فى بعض الحالات، وناعماً متسللاً فى حالات أخري، ومتدثراً متخفياً وراء قوى محلية فى حالات ثالثة. والعجيب أن هذه القوى تضم إسلاميين وغير إسلاميين(!) و(الآخرون) هم كل الآخرين من قوى إقليمية ودولية، وتنظيمات إرهابية تبحث لنفسها عن موضع قدم فى ديار العرب إمّا تنفيذاً لسيناريوهات جغرافية او تحقيقاً لمصالح استراتيجية أو تمكيناً لدعاوى دينية متطرفة. (بلاد العرب) هى المنطقة التى كنا نسميها زهواً ذات يوم الوطن العربى أو الأمّة العربية. ثم تضاءلت أحلامنا فأصبحنا نسميها المنطقة العربية او بلدان الجوار. تراجعت الأحلام اكثر حتى باتت التسمية الأكثر دقة (وألماً) هى بلاد العرب. وهى تسمية أصبحت أميل إليها منذ سنوات برغم مرارتها. أما (الفراغ العربي) فيعنى بكل بساطة غياب (المشروع القومي) إما نتيجةً لانكفاء العرب على أنفسهم وفقدانهم الحد الأدنى من الثقة بالنفس وإما بسبب تناقضاتهم وانتكاساتهم الداخلية. فشل الفراغ العربى فى ملء تطلعات الشعوب إلى الوحدة أو التكامل العربى او حتى التضامن فى الحد الأدني. فالحديث عن الوحدة العربية أصبح مثاراً للتندر وربما السخرية. فقد تحوّل حلم الوحدة العربية إلى هم الحفاظ على الدولة القُطْرية صنيعة اتفاقية سايكس بيكو. ثم تحوّل هم الدولة القُطْرية إلى هموم بعدد أنظمة الحكم التى تسعى للحفاظ على وجودها. ثم تحوّلت الهموم القُطْرية إلى محاولات مستميتة ودموية للحفاظ على مقاعد السلطة ومصالح أروقتها ولو كان ذلك على الطريقة الشمشونية بهدم المعبد على رؤوس الجميع. ولم يكن فشل المشروع العربى سياسياً فقط بقدر ما كان فشلاً اقتصادياً أيضاً. والدليل هو أن حجم الاستثمارات العربية البينية داخل الحدود العربية لايتجاوز 2 أو 3% من إجمالى حجم الاستثمارات العربية خارج الحدود العربية. لم يسقط المشروع العربى على المستوى السياسى او الاقتصادى فقط بل تجلّى السقوط أيضاً فى العجز عن إقامة مجتمع مدنى حديث ركائزه العدالة والحرية والمواطنة ودولة القانون. فبدا العرب (جغرافياً) يعيشون فى قلب العالم لكنهم (حضارياً) يعيشون على أطرافه وربما خارجه كليةً . وهذا وجه آخر للخطورة لأن غياب العدالة والحرية والمواطنة ودولة القانون جعل من البعض خصوماً للدولة والمجتمع معاً. ثم تكاثر الخصوم والارهابيون وتناسلوا وراحوا يرتعون فى الفراغ والأخطر أنهم راحوا يتحالفون أو يتوافقون مع الشيطان نفسه لإرباك الدولة وتقويضها. وكان هذا هو المناخ الأنسب لأن يستغل (الآخرون) صراع (الإخوة الأعداء) بالتمدد فى ديارنا والتسلل عبر صحرائنا. إنه الفراغ إذن ولا شيء غيره. ومثلما تقضى حقائق الطبيعة بأن الفراغ لا بد أن يستدعى مادة تملؤه أياً كانت طبيعتها أو شكلها فإن بلاد العرب بدت مهيأة لمن يتقدم لملء هذا الفراغ سواء كان أمريكياً أو روسياً او تركياً أو إيرانياً، أو كان هو تنظيم القاعدة أو داعش أو بيت المقدس. هنا، يحق التساؤل ولماذا لم يتمدد الآخرون فى بلدان محورية أخرى مثل الصين آو الهند أو إيران أو تركيا أو البرازيل والأرجنتين على سبيل المثال؟ فى الواقع هذه بلدان قد تختلف أيديولوجياً او سياسياً آو ثقافياً أو دينياً. لكن سمتها المشتركة أنها (صاحبة مشروع) نجح فى توحيد الأمة واستنفار همتها وإيقاظ حلمها. فقد بدأ مشروع النهوض الصينى منذ نحو ثلاثين عاماْ وها هى الصين تستعد فى غضون سنوات لأن تصبح القوة الاقتصادية الأكبر عالمياً. ونجحت إيران برغم الحصار والصعاب فى تحقيق حلمها النووى للأغراض السلمية وبناء صناعة عسكرية تبدو اليوم ورقة ضغط تحصل بها على الكثير من المكاسب والمصالح. ربما تبدو إيران دولة مكروهة فى الغرب لكنها تحظى باحترام الغربيين لأنهم أبناء حضارة تحترم الأقوياء وتتجاهل الضعفاء. والهند متنوعة الأديان والأعراق واللغات تمضى بثبات على طريق التقدم، وتركيا تراكم إنجازها الاقتصادى برغم ما تبدو عليه من تشتت وتخبط سياسي. فى كل هذه الدول لم تستطع قوة خارجية طامعة او خصم سياسى داخلى تشتيت انتباه الأمة عن تحقيق مشروعها الكبير. سؤال الختام هل يفتقر العرب حقاً إلى (مشروع) أم أن المشروع قائم لكننا لا نراه؟ لا تبدو الإجابة عسيرة فالمشهد المدرك بالحواس يغنى عن أى تنظير. ------------------------ قالوا: يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم