كلما ذكرت الثقافة تحسست مصر أزمتها، لكنها عندما تواجه الإرهاب أو الفقر تنسى ثقافتها، وتنسى أيضا أن الخروج من الفقر، ومواجهة الإرهاب قضية عقل وثقافة قبل أن تكون قضية أمن، فسؤال العقل وتجديده. ومن ثم تجديد الخطاب الدينى هى محاور الجدل الدائر الآن فى مصر التى تواجه أزمة اقتصادية وأمنية، فهل يمكن أن ندفع بالنقاش إلى حدود أبعد من غبار الكلام وملامسة أرض الواقع، بحيث يكون خطابنا الجديد ثقافة جديدة تجعلنا قادرين على مواجهة الإرهاب، وتجفيف منابعه ومنابع الفقر معا؟! هل يمكن أن نبدأ بتحرير الثقافة وتجديد خطابها قبل أن نبدأ فى مواجهة إرهاب يلغى العقل لدى مرتكبيه ومقاوميه؟ الدكتور محمد عفيفى مؤرخ يدرك أهمية قراءة الدرس التاريخى ، ويتعامل مع الواقع تعامل المؤرخ الذى يلتفت إلى التفاصيل، لكنه لا يهمل السياق كله، ويعترف بقصور ثقافى ، لكنه متفائل رغم كل شيء .. فى حواره للأهرام يكشف صعوبات الحوار مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى بشكل عام، ويرى أن الدولة ليست مطالبة بإحداث ثورة دينية أو فكرية, فهذه مهمة المفكرين, ولكنه يتفهم دعوة الرئيس السيسى لذلك بسبب غياب دور منظمات المجتمع المدنى والتى يرى ان لها دورا استثنائيا فى إحداث التنوير ولكن دورها يقتصر على جانب وحيد ولا يشارك فى تحقيق تجديد العقل المصري. ويدعو الدكتور عفيفى الى تغيير قانون وزارة الثقافة بحيث تشرف هى على هذه المنظمات بدلا من وزارة الشئون الاجتماعية.. وهذا نص الحوار *حديث الأزمة هو الخطاب العام فى مصر .. أزمة اقتصادية وأزمة أمنية بسبب الإرهاب، أين الثقافة من هذا الحديث العام ؟ **أنا من المؤمنين بوجود أزمة اقتصادية كبيرة فى العالم العربي، وأزمة أمنية فى الوقت نفسه، لكن التركيز على حل هاتين الأزمتين يستبعد الثقافة من أجندة الحل، وأرى أننا لا نستطيع أن نحل مشكلة الأمن أو الازمة الاقتصادية من دون الثقافة.. وأعنى بالثقافة هنا تغيير أنماط الحياة إلى الأفضل، وتغيير طرائقها وأساليبها، لأن الثقافة هى كيفية مواجهة مجتمع ما للحياة. وعندما نكتفى فى مواجهة الفقر بالكلام عن الاقتصاد، فإننا نلجأ إلى مسكنات للألم فقط، ولا نعالج الأمر من جذوره. لأن تغيير أفكار الناس حول القضايا الاقتصادية هى مسألة ثقافية بالأساس، وكذلك الأمر عندما نتكلم عن التطرف الدينى أو الإرهاب. فليس الأمر مشكلة أمنية فقط نحلها بواسطة الأمن بل هى مسألة ثقافية بالدرجة الأولى، وتعبير عن أزمة عقل يعيش فى دائرة ضيقة من تصورات جاءت من الماضى وترفض التصالح مع العصر. ولا يمكن مواجهة الإرهاب مواجهة حقيقية وناجحة من دون اللجوء إلى تغيير ثقافي، وتجديد للعقل . *ولكن البعض قد يجادل فى أن الثقافة وتجديد العقل لم يمنع ظهور الإرهاب فى الغرب؟ دعينا نفكك هذه المقولة أولا، فالإرهاب الذى يحدث فى العالم الغربى قادم فى الغالب من الشرق ، ولا يمكن أن ننكر أن جزءا منه نتيجة لمشكلات تدور أحداثها فى الشرق، ولم تحل، ولم يسهم الغرب فى حلها ، بل يسهم فى تفاقمها أحيانا. والإرهاب الدينى الذى تتورط فيه جماعات التأسلم السياسى فى أوروبا هو نتيجة مشكلة دينية وسياسية لم تحل فى الشرق الأوسط، ولم يحسن الغرب التعامل معها. *إذن فالمشكلة سياسية بالأساس وليست ثقافية؟ ربما تكون سياسية فى جزء منها، لكنها مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى. فقد اعتاد الغرب التعامل مع مشكلات الشرق انطلاقا من المفاهيم الدينية، أو المنظور الديني. فهناك عقيدة لدى المستشرقين بأن طريقة فهم الشرق لا تمر إلا من خلال الدين.. وكثيرون فى الغرب اعتقدوا أن وصول الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم فى العالم العربى سيحل مشكلة الإرهاب، لأن العرب لا يفكرون – وفق المفاهيم الاستشراقية -إلا فى الدين وبالدين! ولذلك عمل الغرب على تشجيع الاتجاهات الدينية فى المجتمعات العربية ظنا أنهم يحلون المشكلة من جذورها بهذا، ولكنهم كانوا مخطئين فى تصوراتهم ، ويدفعون ثمن هذا الخطأ السياسى والثقافى . -دعا الرئيس السيسى أخيرا إلى تجديد الخطاب الدينى وتساءل البعض هل من حق الدولة أن تتدخل فى الدين وتدعو إلى مثل هذه الدعوة؟ من الناحية النظرية ليس من مهام الدولة الكلام فى الدين أو توجيه الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.، ولكن لوضع الأمر فى إطاره الطبيعي، أعود إلى ما قلته فى البداية من أن مشكلتنا فى جوهرها ثقافية، فالمفترض أن دعوة كالتى أطلقها الرئيس تنطلق من المجتمع المدنى القوي، ويستجيب لها المفكرون الإسلاميون والمؤسسات الثقافية والدينية. ولكن للأسف الشديد ليس لدينا مجتمع مدنى ثقافى قوي، وبالتالى يتحرك رأس الدولة ليطالب بذلك. -تتحدث عن مجتمع مدنى قوي.. كيف يمكن دعم منظماته فى ظل الاتهامات التى غالبا ما يلوح لها بها؟ مشكلة منظمات المجتمع المدنى عندنا، أو مشكلتنا أننا حصرنا عمل المجتمع المدنى فى قضية واحدة، هى حقوق الإنسان، وفى جانب واحد منها هو التعذيب وما إلى ذلك..ومع احترامى البالغ لقضية حقوق الإنسان والحريات، فإن مفهوم المجتمع المدنى أكثر اتساعا من ذلك.. وقضية حقوق الإنسان هى أيضا وبالأساس قضية ثقافية يجب توسيع الوعى بها ثقافيا ومجتمعيا.. -لكن منظمات المجتمع المدنى الآن فى مصر متهمة بالعمالة أو التمويل ، وهناك قوانين تكبل خطواتها، فما العمل؟ نحاول حاليا العمل على إشراك وزارة الثقافة فى هذا الميدان كلاعب رئيسى . منظمات المجتمع المدنى للأسف تتبع وزارة الشئون الاجتماعية، ونحن نسعى لتغيير هذا الوضع وأن نجعل تلك المنظمات تابعة لوزارة الثقافة، كما نسعى لتغيير القانون الخاص بهذه الجمعيات والمنظمات. -وإلى أن يتم تعديل القانون ماذا يمكن للمجلس الأعلى للثقافة أن يفعل؟ قمنا بعمل لقاءات موسعة مع منظمات المجتمع المدنى الثقافية المستقلة، وبحثنا معهم سبل التعاون بحيث لا نفرض عليهم قناعاتنا – فنحن حريصون على استقلاليتهم – ولكننا ناقشنا التعاون فى تدريب الكوادر ونقل الخبرات، وكيف يستفيدون من امكانات وزارة الثقافة. نحن لسنا فى منافسة مع هذه المؤسسات بل نعمل معها مثل جمعية الجيزويت وجمعية اسكندريللا الثقافية.. وقمنا فى هذا الإطار أخيرا بتنظيم ورشتين مع جمعية أحمد بهاء الدين والفن ميدان .. -الفن ميدان، بالمناسبة، لا يزال متوقفا لأسباب أمنية.؟ إن شاء الله سيعود الفن ميدان . هناك تحرك قوى لإعادة هذا النشاط المهم، ونسعى بجدية لعودة الفن ميدان إلى الشارع الثقافى المصرى قريبا. وأعود إلى سؤال الخطاب الدينى وأقول إنه لو كانت لدينا شبكة واسعة من منظمات المجتمع المدنى لاستطعنا تغيير الخطاب الدينى من خلال الحوار مع المفكرين ومع المجتمع. وسنسعى فى المجلس الأعلى للثقافة إلى فتح نقاش موسع حول هذه القضية، حيث سننظم صالونا ثقافيا خلال أيام حول تجديد الخطاب الديني، وفى معرض الكتاب الذى سيبدأ اليوم سيكون المحور الأساس فيه تجديد الخطاب الدينى أيضا. -ما العائق أمام تطور حركة الترجمة فى مصر؟ أنا أستاذ للتاريخ وأفهم جيدا أن حركة الترجمة لا تنتعش عبر التاريخ إلا فى مناخ الحرية والديمقراطية. ولو عدنا إلى حركة الترجمة فى العصور الإسلامية كالعصر العباسى مثلا سنجدها كانت قوية لأنهم تمتعوا بحرية لا نتمتع بها الآن مثلا.. ولكى نقدم حركة ترجمة سليمة – لا أتكلم عن الجهود الفردية، بل عن سياسات متكاملة وحركة ممنهجة- لا بد من توفير مناخ من حرية التفكير والديمقراطية بمعناها الأوسع والأعمق، الذى لا يتوقف عند صناديق الاقتراع. فالترجمة حوار حضارى يقوم على قبول أفكار الآخر وتغيير طرق تفكيرنا، ولذلك لا يمكن أن تنتعش الترجمة فى المجتمعات التقليدية المنغلقة أو المجتمعات غير الديمقراطية.