حياتنا مليئة بالأخطاء. والسلوكيات التى تؤذى مشاعرنا وتجرحنا أكثر من تلك التى ترضينا وتعجبنا. لا يكاد يوجد مجال واحد للحياة فى مصر إلا وفيه عيوب. وهذا ليس بمستغرب إذا أخذنا فى الاعتبار حجم الفساد الذى تركه نظام مبارك يسيطر على المصريين كالأخطبوط. ولن يكون تصحيح هذه العيوب سهلا لو انطلق بدون تصور فكرى سليم. فالمشكلة المرعبة فى مصر ليست سياسية ولا أمنية ولا اقتصادية وإنما فكرية. إنها فى الطريقة التى نفكر بها. فى الخطاب الفكرى السائد. فى طريقة بناء عقول المصريين. فالتفكير ليس رفاهية وإنما ضرورة لأن الخطاب الفكرى الذى يصل إلى الناس هو الذى يحدد تصرفاتهم وسلوكياتهم. لهذا فأى إصلاح إدارى أو اقتصادى أو سياسى يعلن عنه بدون إصلاح جوهرى فى الخطاب الفكرى السائد لن يكون له أثر عميقً. مصر تحتاج إلى تفكير جديد وإلى خطاب فكرى مختلف شكلاً ومضموناً يبعد عن التهييس والتقعير. والكلمتان بالمناسبة فصيحتان. أما التهييس فمن الفعل الثلاثى (ه ا س) وهو التصرف جزافاً والسير على الكيف بموجب الهوى على أى ضرب كان. ولا يبتعد المعنى الدارج بين المصريين عن ذلك كثيراً. فالتهييس هو الكلام الفارغ، الذى عادة ما يربطونه على سبيل الدعابة بتعاطى المخدرات. وخطاب التهييس خطاب أجوف. يروج أكاذيب ويلفق تهما ويقدم أسبابا هزلية لمشكلات معقدة. خطاب سطحى لا يمكن أن يحث الناس على الجدية. يقول كلاما كبيرا دون أن يدعمه بالدليل ويبحث عن الإثارة حتى لو كان الموضوع تافها. ومع أن المروجين لخطاب التهييس يجدون فى الإعلام نافذة مغرية يطلون من خلالها على المصريين ليؤذوا عقولهم ومشاعرهم، إلا أن التهييس ليس مقصورا فقط على الإعلام، فهو يُمارس فى مختلف ألوان الخطاب الفكرى من الدينى إلى السياسى ومن الثقافى إلى العلمي. بات المصريون يسمعون كلاما غريبا عجيبا ينحدر بالعقول إلى كارثة بسبب ماف يه من سطحية وفذكة وفجاجة وإسفاف.. كلام مرسل وضجيج صارخ يرتفع تارة من باحث، وتارة أخرى من مذيع، وتارة ثالثة من قيادة حزبية، وتارة رابعة من إمام مسجد بحيث أصبحت الأجواء العامة تعج بالتهييس، لا جدية ولا مسئولية ولا خجل حتى لو تعلق الأمر باختراع يفترض أن يكون علميا أو درسا دينيا يتوقع أن يكون أخلاقيا أو حلا سياسيا يفترض أن يكون منطقيا، لكن التهييس لا يلتزم بمسئولية أو أخلاق أو منطق، لأنه فى الأصل خطاب بلا مضمون، وإنما صراخ وتشويه واستباحة لكل محظور ومجافاة للعقل والضمير. على الجانب الآخر هناك خطاب فكرى مختلف، الأصل فيه أن يكون رصينا متماسكا ونافعا، لكنه للأسف لايزال عند كثير من الناس غير مفهوم، وغير مهضوم، أصحابه من الجادين الذين أفنوا جل حياتهم فى التعلم والقراءة، والوقوف على الجديد من المعارف، لكن ثمة عيبا ملحوظا يشوب طريقتهم تتمثل فى عدم استعدادهم، أو ربما عدم قدرتهم، على تبسيط كلماتهم وأفكارهم حتى تصل إلى عامة الناس على قدر أفهامهم، خطاب هؤلاء خطاب تقعير، والتقعير هو التشدق فى الكلام من جانب الفم رغبة فى الاستعراض، وإظهار الفصاحة، المقعر كثيرا ما يستعمل ألفاظا ضخمة، وكلمات فخمة، وتعبيرات مركبة، قد يفهمها بعض المتخصصين، أما العامة فمساكين، تضيع منهم المعاني، ويتوهون فى زحام التعميق، كان يمكن للعامة أن يجدوا خطابا فكريا راقيا عند أهل المعرفة الدقيقة، لكنهم للأسف لا يحصلون عليه أحيانا بسبب التشدق والتقعير. ومع أن شعارات طيبة مثل «العلم فى خدمة المجتمع» و«عصر العلم» و«العلم للجميع» تتردد من حولنا، إلا أنها لا تتحقق لأسباب عديدة من بينها لغة الخطاب الفكرى الذى يستعمله كثير من المتخصصين، تسمع بعضهم أحياناً ساعة ولا تخرج بحصيلة. وليس غريباً أن نجد المصرى الطيب يعلق على مثل هذا اللون من الخطاب قائلاً «هو الراجل دا عايز يقول إيه؟» وهذا ما يلقى على أهل العلم مسئولية جسيمة، فإذا كانوا يشتكون من خطاب التهييس إلا أنهم لايزالون عاجزين عن تقديم خطاب فكرى بديل يهضمه المصريون، فالبعض منهم يتكلم بطريقة لا يفهمها العامة. حتى بعض القائمين على أمر الخطاب الدينى تجدهم يقعرون مع أن الحديث النبوى الشريف يقول »إن أبغضكم إلى وأبعدكم منى مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون« أى المهيسين والمقعرين معاً. المصريون فى حاجة إلى وعى جديد ولغة عامة مختلفة وآداب حوار وأساليب تفكير رصينة. وهذا كله أمره فى أيدى أساتذة الجامعات والمثقفين والمفكرين والباحثين والعلماء. لكن بين هؤلاء قطاع كبير ينسى أن خطابه يجب ألا يقف عند أسوار الجامعات ومراكز البحوث بل عليه أن يصل به إلى الناس. المشكلة أن عددا ليس قليلا من الباحثين والعلماء لا يثق وربما لا يصدق أن للعلم وظيفة اجتماعية ومسئولية عامة تتخطى الوظيفة التعليمية التى يؤدونها فى قاعات الدراسة. قد يكون العلم من أجل العلم وارداً. لكن العلم فى المقام الأول من أجل الناس. كل الناس. الغنى منهم والفقير. المتخصص وغير المتخصص. لمن ينقب بدأب عن المعرفة ومن يبحث عنها فقط عندما تدعوه الضرورة. لهذا فإن قيمة العالم لا تقاس بقدرته على الكلام الكبير وإنما بمهارته فى الكلام المنظم والبسيط. العالم الحق هو من يفهم الكلام المقعر لكنه لا يستعمله. هو من يستطيع أن يخاطب الخاصة فى تخصصه بلغة العلم المجردة ويخاطب العامة بلغة مبسطة. فمسئوليته إنتاج خطاب فكرى يرتقى بعقول الناس ليحببها فى العلم لا أن يؤففها منه. مصر تحتاج إلى خطاب فكرى جديد وجاد. علمى وجذاب. محترم غير معقد. خال من الألفاظ الغريبة للمقعرين والعبارات السائبة للمهيسين. خطاب فكرى مختلف شكلاً ومضموناً. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات