استمتعت بقراءة كتاب المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية"، والحق أن كتابة ورقة بحثية عن كتاب بهذا الثراء وعن مفكر بهذا القدر هو أمر شاق وصعب ومحير، فالسيرة حافلة بالموضوعات الفكرية المختلفة وتفتح آفاقا كثيرة للتفكير، لدرجة أنني كنت أقرأ الفقرة وأسرح وأسبح في تيارات متدافعة من الأفكار. إن أكثر ما أبهرني في رحلة الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الشفافية والصدق والصراحة مع النفس وعدم التنكر لأي مرحلة من مراحله الفكرية. لقد تعرض لتحولات فكرية متتالية لكنه استفاد من كل مرحلة وطور من تفكيره وهو أمر يدعو إلى الإعجاب والانبهار لأن كثيرا من الناس يخشون من تغيير أفكارهم وقناعاتهم. وإذا غيروها، سواء عن اقتناع أو تحت ضغط الواقع، يبدأون في التلفيق والتبرير. لكن المسيري كان واضحا مع نفسه وينتقد أفكاره بشكل مستمر وهو ما سهل عليه تطويرها. وقد كنت أفكر في تناول موضوع أو إشكالية محددة في محاولة لرصدها وتحليلها بطريقة أو نظرة مسيرية، إن جاز التعبير. لكنني في النهاية فضّلت أن أتعامل مع كتاب "رحلتي الفكرية" بطريقة بسيطة وسلسة كأسلوب الكتاب نفسه، على أن أرجيء الكتابة عن إشكالية بعينها بطريقة مفصلة لحين البدء في الكتب الأخرى للمسيري. لذلك، فإنني سأقسم هذه الورقة لقسمين، الأول سأقوم فيه بالتعليق على أهم النقاط التي وردت في الكتاب واستوقفتني وأرى أنها تستحق الاهتمام وتركيز الضوء عليها لأنها إما جاءت بجديد بالنسبة لي أو رسخت معنى أؤمن به أو شرحت وعبرت عن فكرة كامنة لدي لكني لم أقدر على استكناهها أو التعبير عنها كما عبر عنها المسيري بشكل مبهر، أو لأني لي رأيا أو تعليقا عليها. أما القسم الثاني، فسأقوم فيه بنقد مشروع المسيري من وجهة نظري. القسم الأول: شذرات من كتاب رحلتي الفكرية - يقارن المسيري بشكل مستمر في رحلته الفكرية بين المجتمع التقليدي (التراحمي) والمجتمع الحديث (التعاقدي)، ويذكر محاسن الأول ويبرز مساويء الأخير. إلا أنه يستدرك وينفي عن نفسه "تهمة" الحنين الرومانسي للماضي بما يحمله من مجتمع تقليدي، فيؤكد أنه مدرك تماما للجانب المظلم لهذا المجتمع التقليدي. لكنه حين يبدأ في سرد هذه المساويء يقول "يجب أن أشير إلى وعيي بالجانب المظلم لهذا المجتمع التقليدي. فالفردية التقليدية (وهي غير الفردية الحديثة)، وعدم انضباطها، تتضح بشكل درامي، خاصة حينما تبدأ المؤسسات الحديثة في الظهور، وهي تتطلب من الفرد قدرا من الانضباط العام والمجرد." وهنا تحديدا يقع المسيري في خطأ –من وجهة نظري- في أنه يحاكم المجتمع التقليدي إلى المؤسسات الحديثة، أي يجعل من المؤسسات الحديثة مركزا يحاكم إليه تصرفات الفردية التقليدية. وفي رأيي أن هذا ليس عيبا في المجتمع التقليدي وإنما عيب في الحداثة ذاتها كونها تحاول تغيير جوهر وصفات المجتمع التقليدي وتبدأ في بناء مؤسسات خارجة عن أعراف هذا المجتمع وتركيبته أو غير نابعة من التطور والحراك الطبيعي له، فتفرض عليه مؤسسات تتطلب قدرا من "الانضباط العام والمجرد". أليس الأولى أن نحاكم المؤسسات الحديثة إلى المجتمع التقليدي؟ فمن الطاريء ومن الأصل؟ أعتقد أن هذا تساؤل مشروع ومهم من أجل محاولة تطوير مؤسسات من داخل المجتمع التقليدي نفسه تتناسب معه فلا تقوضه ولا تشتكي منه في النهاية لأنه لا يحترمها. إن المجتمع التقليدي ينطلق من الجانب الجواني (التراحمي)، في حين أن المجتمع الحديث يركز على الجانب البراني (التعاقدي). والنموذج التعاقدي يهدف إلى تنميط الناس حتى يسهل عليه التعامل معهم لأن المؤسسات الحديثة تتطلب من الفرد "قدرا من الانضباط العام والمجرد"، وبالتالي فالحداثة ستظل في صدام دائم مع المجتمع التقليدي. - يذكر المسيري في صفحة 153 عن تعيينه كمساعد باحث في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومحاولته في طرح طريقة جديدة للتدريس ترتكز على المضمون بدلا من الشكلية التي كانت متفشية بين الطلاب والمعيدين في أمريكا، ويقول "كان من المتوقع ألا يوافق أحد من المعيدين على اقتراحي الذي يركز على المضمون الإنساني والأخلاقي" إلا أن الغالبية وافقت، ودلل هنا على أن "ما يسود من تقاليع ربما لا يكون بالضرورة تعبيرا عن رغبات الناس وتطلعاتهم الحقيقية. وهذه حقيقة مهمة لابد من تذكرها في عصر الإعلام والموضات المتلاحقة" هذه المقولة السابقة تؤكد تماما على أن الواقع المفروض على الناس لا يجب أن يكون حكما عليهم أو دليلا على أن هذه رغبتهم، لأن الغالبية العظمى منهم الآن أصبحوا مسلوبي الإرادة أو لم تتح لهم أصلا فرصة للاختيار أو التقييم. يضغط الإعلام على أعصابهم ويفرض عليهم اختيارات وأذواقا وأسلوب حياة، بل وطريقة تفكير. ويبرر أصحاب رؤوس الأموال بأن "الناس عاوزة كده" وهي أكذوبة الهدف منها زيادة الأرباح عن طريق مخاطبة الغرائز والإدّعاء أن هذه رغبات الناس ومنتهى آمالهم. وفي ظني أن الناس إذا ما عرض عليهم رؤية جديدة تسبر أغوار إنسانيتهم وتصل إلى فطرتهم فإنهم سيعيدون التفكير في الواقع المفروض عليهم وسيعيدون التفكير في معنى حياتهم. ووقتها فقط سنعرف ماذا يريد الناس حقا. لكن ما يحدث هو أن الإعلام والسوق -وهما بالمناسبة آلهة الحداثة- يشكلون وعي الغالبية العظمى من الناس على أسلوب معين وبالتالي يصبح من السهل التحكم فيهم، أو كما ذكر المسيري في الكتاب ما وصف به ماركوز المجتمعات الغربية "المتقدمة" بأنها مجتمعات يسود فيها ضرب من غياب الحرية في إطار ديمقراطي سلس معقول. - في موضع آخر من الكتاب يقول المسيري "إن إيماني أساسا إيمان عقلاني (بل يمكن أن يوصف بأنه جاف)، فأنا لا أشعر بأي شيء يشبه شعور المتصوفة وما يسمى بالروحانيات، ولا أنفعل دينيا إلا نادرا". إن المدخل الإيماني للمسيري كان مدخلا فلسفيا ولا شك، وهو أمر لا يعيبه ويتناسب تماما مع تطوره وسياقه الفكري، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه هذا الطريق للوصول للإيمان. لكن نفي الأساس الروحي والاكتفاء بالجانب "العقلاني" هو أمر يتنافى مع فكرة الثنائية في نفس الوقت. هذه العبارة السابقة توضح في رأيي تناقضا صارخا عند المسيري، فهو ينكر هنا الثنائية التي يركز عليها دائما، ثنائية الروحي والمادي. أو كما وصفها علي عزت بيجوفيتش "الوحدة ثنائية القطب". فالإيمان دائما يرتبط بالروح حتى لو تم التوصل إليه بالعقل ابتداء. - ينتقد المسيري مركزية الحضارة الغربية ويؤكد دائما على ضرورة الاعتزاز الحضاري والتمسك بالهوية الثقافية والحضارية، إلا أنه في موضع آخر حين يتحدث عن مسألة "طريقة التحية" -خاصة بين الرجال والنساء- فإنه لا يجد غضاضة في قبول أداء التحية وفقا للثقافة الغربية بدعوى عدم الوقوع في "خطأ حضاري" وفقا لخطابهم الحضاري! وأنا أرى أن هذا الأمر يشكل تناقضا صارخا عنده لأنه "برر" هذا الفعل وشرحه لطالباته اللواتي استنكرن هذا الفعل. فأنا مدرك تماما أن التصرفات ليست –في المطلق- حكما على فكر الشخص وليست مرآة لفكره. لكن المشكلة هنا أنه برر الفعل بدعوى احترام الخطاب الحضاري للآخر! وإذ يؤكد المسيري على ضرورة أن يسبق الحكم الأخلاقي عملية فهم وتفسير، فأنا متفهم تماما لما قام بشرحه لطالباته وذلك وفقا للنسق الذي يتحاكم إليه. لكننا كمسلمين نتحاكم إلى مركز ومرجعية مختلفة تماما فإن هذا التبرير يصبح غير ذي معنى على الإطلاق. وهو ما سأتناوله في القسم الثاني من هذه الورقة. القسم الثاني: نقد مشروع المسيري "إن أي مؤلف لا يكتب (للناس جميعا) وإنما لمجموعة محددة من البشر. وكل كاتب –في تصوري- يحتاج إلى جماعة من القراء تتوافر فيهم عدة شروط: أن يكونوا مهتمين بالقضية التي يتناولها، وأن يكونوا على مستوى فكري يمكنهم من الحكم على أعماله فلا يكيلوا المدح دون حساب أو مقياس، وألا يكونوا من الحاسدين الحاقدين. مثل هؤلاء يمكنهم توجيه النقد للمؤلف داخل إطار من الصداقة والتقبل المبدئي، ويعطيه قدراً من الشرعية، فهذا يشد من أزره، والحوار الدافيء الذكي يولد في نفسه الثقة فيزداد الإبداع". الفقرة السابقة مقتبسة من الكتاب، وما أسرده هنا ليس نقدا بالمعنى الفني للكلمة، لأن النقد لم يحن أوانه بعد وإنما يجب أن يؤجل لحين الانتهاء من كافة منهج الرواق حتى يكون النقد على قدر من المعقولية. لكن ما أسرده هنا هو مجرد انطباع أولي عن مشروع المسيري كما اتضح لي من خلال الكتاب موضوع هذه الورقة. ما لاحظته من خلال قراءة الموضوعات المختلفة في كتاب "رحلتي الفكرية" ومن خلال تتبع مسار تطور أفكار المسيري رحمه الله، هو أن مشروعه الفكري بالأساس مشروع تفكيكي، يهدف إلى تفكيك ونقد الحداثة الغربية والنماذج الفكرية والحضارية السائدة دون أن يؤسس لمشروع ينطلق من المرجعية الإسلامية. وهذا ليس ذما في مشروع المسيري، فنحن نسأل الله أن يجازيه عنّا خير الجزاء، لأن مشروعه مهم جدا في معرفة مدى انحطاط النموذج الحداثي الغربي الذي أصبح مفروضا علينا، بل وصل الأمر أنه أصبح مركزا للإسلاميين أنفسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فنحن –للأسف- حتى الآن ننقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها –وهم قلة- تكتفي بنقد المشروع الغربي، وثانيها تقوم بمحاولة أسلمته (وهم من يطلق عليهم أصحاب مشروع "الإسلام الحضاري")، أما الفريق الغالب فهو فريق منسحق تماما أمام المشروع الغربي ويتبعه شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكوه. وبناء عليه فإن مشروع المسيري التفكيكي يحتاج إلى مشروع بنائي يخلفه. مشروع ينطلق من المرجعية الإسلامية والتي تتمثل في (الوحي) بوصفه المرجع الرئيس والوحيد للمسلمين. مشروع ينبني على المعجم الحضاري الإسلامي والذي يتمثل في "قال الله وقال الرسول (ص)" بمعناها العميق والكامن، وليس في قشرة الحلال والحرام فقط. مشروع ينطلق من حقيقة التصور الإسلامي لعلاقة الفرد المسلم بالله وبالطبيعة/الكون وبالمجتمع. وفي رأيي، أن هذا المشروع البنائي قد بدأه الشهيد سيد قطب، لكنه لم يكتب له الانتشار لأسباب عديدة، أبسطها ما قاله الشهيد نفسه "لقد وضعت حملي على حصان أعرج". وبالعودة إلى المسيري مرة أخرى، فعلى سبيل المثال حين يقارن بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث وينقد كلا منهما، فإنني أتساءل أين هو المركز الذي يحاكم إليه المسيري هذا المجتمع أو ذاك؟ من أين ننطلق في توجيه هذا النقد؟ هل هو مجرد أساس فلسفي؟ وعلى أي شيء بُني هذا الأساس الفلسفي؟ وحين يتحدث في نهاية فصل "الاستهلاكية والإمبريالية النفسية" يقول "فالعقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع الأمريكي ينطلق من فكرة الفرد المطلق، ومصدر الشرعية للنظام السياسي والاجتماعي هو تحقيق الرفاهية الاستهلاكية للمواطن، والفلسفة السائدة هي البراجماتية التي لا تتساءل عن الكليات والماهيات. وانطلاقا من كل هذا يكون من العبث مطالبة المواطنين بالحد من الاستهلاك، فباسم من سنطالب المواطن الذي يعيش في حواسه الخمس أن يمتنع عن الاستهلاك: باسم الأجيال المقبلة، أم الأخلاق الحميدة، أم القيم المطلقة؟ "اليوم خمر وغدا أمر" هذه هي عقلية الاستهلاك المادية، ولا يمكن إيقافها إلا بالخروج منها والبحث عن أساس فلسفي آخر". يتجلى في هذه الفقرة ما أريد التركيز عليه، فنحن هنا أمام وصف مركّز لأزمة الحضارة الغربية المتمثلة في العقلية الاستهلاكية المادية، وتنتهي الفقرة بتقرير أن الحل هو الخروج منها والبحث عن أساس فلسفي آخر. هنا بالتحديد يأتي دورنا، كمسلمين ينطلقون من أساس مختلف تماما هو الوحي كما ذكرت، ليؤسسوا لنموذج معرفي وحضاري يكون فيه الخلاص للبشرية من هذا الشقاء النفسي الذي أوصلهم إلى العدمية. ومن هنا تأتي أهمية المشروع البنائي في مقابل المشروع التفكيكي.