أضحت حرية الرأى والتعبير تحتل مكان الصدارة فى المواثيق الدولية ودساتير الدول المتقدمة. وكانت مصر من أوائل دول العالم التى أكدت هذا النوع من الحريات الأساسية، فنص دستور 1923 على حرية الاعتقاد (مادة 12)، كما نص على أن حرية الرأى مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو بغير ذلك فى حدود القانون (مادة 14)، وأن الصحافة حرة فى حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعى (مادة 15). وهكذا كانت مصر سباقة على الصعيد الدولى فى إرساء دعائم الحريات الإنسانية وفى مقدمتها حرية الرأى والتعبير. ومن يطالع الدساتير المصرية الصادرة خلال عقود تالية لا يجد عناء فى فهم مغزى استلهام المشرع الدستورى لمضامين دستور 1923 الذى كان متقدما بمعيار عصره. وبنظرة متأنية فاحصة مدققة لمواد الدستور المصرى الأخير، بمناسبة مرور عام على صدوره، يمكن القول إن هذا الدستور يجىء فى مقدمة الدساتير المصرية من حيث الاهتمام بقضايا الصحافة والاعلام بصفة خاصة، وقضية حرية الرأى والتعبير بصفة عامة. فقد بلغ عدد المواد التى تناولت هذه القضايا 15 مادة من إجمالى مواد الدستور البالغة 247 مادة.. فنصت المادة 54 على أن (الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس). كما أكدت المادة 57 حرمة الحياة الخاصة وأنها مصونة لا تمس وأن للمراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب ولمدة محددة. أما حرية الاعتقاد فقد وصفها الدستور فى المادة 64 بأنها مطلقة. لكن المشرع الدستورى حرص على التأكيد فى الفقرة الثانية من هذه المادة على أن حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الديانات السماوية حق ينظمه القانون، مما يعنى أن حرية الاعتقاد يجب ألا تنعكس آثارها السلبية على المجتمع. وأكد الدستور فى المادة 65 أن حرية الفكر والرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر. أما حرية الابداع الفنى والادبى. التى تعد جزءا أساسيا وجوهريا من حرية الرأى والتعبير، فقد أولاها المشرع الدستورى اهتماما كبيرا، فلأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية، يتم النص صراحة على أنه لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى. وقد جاء نص هذه المادة ليضع حدا لما كان يحدث من قبل أنصار الفكر المتشدد الذين امتلأت قاعات المحاكم، خلال أكثر من ربع قرن، بدعاواهم التى أقاموها ضد المبدعين، وكان معظم أصحاب تلك الدعاوى من المحامين الساعين للشهرة أو من موكليهم الذين اعتنقوا الأفكار الضالة والمتشددة. يستلزم إجراء تعديلات جوهرية فى قانون نقابة الصحفيين رقم 76 لسنة 1970 وقانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996، اللذين يحويان مواد تتناقض مع هذه المادة الدستورية. وفيما يتعلق بالمؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة للدولة، فقد أكدت المادة 72 من الدستور أن تلتزم الدولة بضمان استقلالها بما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية. ثم أفرد المشرع الدستورى فصلا خاصا بتنظيم مؤسسات الصحافة والإعلام، فاستحدثت المادة 212 من الدستور هيئة أطلق عليها (الهيئة الوطنية للصحافة) تقوم على إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة وتطويرها وتنمية أصولها وضمان تحديثها واستقلالها وحيادها والتزامها بأداء مهنى وإدارى واقتصادى رشيد. واستحدث الدستور جهازا جديدا أطلق عليه (المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام) يكون، طبقا لنص المادة 211، هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفنى والمالى والادارى، ولها موازنتها المستقلة. كما ألزم الدستور هذا المجلس بأن يكون مسئولا عن ضمان وحماية حرية الصحافة والاعلام، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية، ومراقبة سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والاعلامية، ووضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الاعلام بأصول المهنة واخلاقياتها ومقتضيات الأمن القومى. لمزيد من مقالات د. عبدالله زلطة