وعموما، فإن من دواعى الفخر والزهو بمشروع الدستور الجديد أنه أنشأ منظومة قوية ومتكاملة ومحكمة أقرت وكفلت للمصريين قائمة طويلة من الحقوق والحريات بعضها ثمين جدا ويدخل نطاق الاعتراف والحماية الدستوريين لأول مرة فى تاريخنا الحديث، مثل الحق فى تلقى «الثقافة» الراقية (مادة 48)، وكذلك حق المتهم فى «الصمت» فى أثناء التحقيق (مادة 55) وحق المحكوم عليه فى جناية أن يستأنف الحكم الصادر ضده أمام درجة قضائية أعلى (المعمول به حتى الآن أن أحكام محاكم الجنح فقط هى القابلة للاستئناف، أما الجنايات فهى درجة واحدة، والطريق الاستثنائى الوحيد للطعن عليها هو اللجوء للنقض) يضاف إلى ذلك الحق فى العلاج والسكن، والحق فى التمتع ببيئة نظيفة..إلخ. ولكن يبقى أن أهم وأخطر ما تضمنه مشروع الدستور هو ما يخص الحقوق الاجتماعية والمدنية وقائمة حريات الاعتقاد والتعبير والصحافة والإعلام والإبداع والبحث العلمى، إذ كفلها المشروع جميعها وحررها تماما -لأول مرة- من ترسانة قيود ومكبلات وتحفظات كانت تصادر بعضها عمليًّا، أو تجعل أغلبها مجرد إدعاءات فارغة ولغو إنشائى ليس له أثر حقيقى فى الواقع المادى المعيش. وفى ما يخص الحقوق الاجتماعية، ألزم مشروع الدستور الدولة بمجموعة ضخمة من الالتزامات تجاه المواطنين عموما والطبقات الشعبية الفقيرة والفئات المهمشة والضعيفة خصوصا (أشرنا إلى بعضها بالأمس) تكفل لها الحدود الدنيا من أسباب العيش بكرامة، منها على سبيل المثال: ■ الإقرار الدستورى الصريح وغير المسبوق بحق العمال فى «التفاوض الجماعى» مع أرباب العمل من أجل تحسين الأجور وتطوير علاقات العمل وجعلها أكثر إنسانية وعدالة (مادة 13). ■ العودة إلى حظر «الفصل التعسفى» دستوريا، وهو الحظر الذى كان موجودا فى دساتير ثورة 23 يوليو وألغته دساتير عصر مبارك والإخوان (المادة 13 نفسها). ■ كفالة حق الإضراب السلمى (مادة 15). ■ النص على ضرورة التوزيع العادل لعوائد التنمية وتقليل الفوارق (الفاحشة) بين الدخول والأجور وفرض حد أدنى عادل للأجر والمعاش بما يضمن للمواطن القدرة على الحياة الكريمة، ووضع حد أقصى لأجر كبار العاملين فى أجهزة الدولة (مادة 27). ■ التزام الدولة بشراء المحاصيل الزراعية الرئيسية بأسعار عادلة ومنصفة من الفلاحين الصغار المتركين حاليا لأبشع أنواع الاستغلال والقهر الاقتصادى والاجتماعى (المادة 29). ■ ألزام الدولة بوضع خطة شاملة ومبرمجة زمنيا للقضاء على الأمية الهجائية (مادة 25). ■ النص على ضرورة وضع نظام ضريبى عادل ومتدرج وتصاعدى (مادة 38). أما حريات الاعتقاد والإبداع والتعبير والصحافة والإعلام والبحث العلمى فقد أسبغ عليها مشروع الدستور حماية وحصانات غير مسبوقة، منها مثلا: ■ النص على أن حرية «الاعتقاد مطلقة»، وحرية الفكر والرأى مكفولة، وأن لكل إنسان الحق فى التعبير بالقول أو الكتابة والتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر (المادتان 64 و65). ■ حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى القضائية لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية (الحبس أو السجن) التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى.. أى أن الدستور الجديد أنهى عار وفوضى استعمال المحاكم فى قمع حرية الإبداع ومطاردة المبدعين (مادة 67). ■ دسترة حق المواطنين فى المعرفة وتداول المعلومات والحصول عليها من مصادرها، واعتبار حجبها عمن يطلبها جريمة (المادة 68). ■ كفالة حرية إصدار الصحف (بالإخطار) وسائر وسائل الإعلام الأخرى، وحظر الرقابة عليها (إلا فى حالة الحرب) أو مصادرتها أو تعطيلها أو إغلاقها (المادتان 70 و71). ■ تحريرالصحف القومية ووسائل الأعلام المرئية المملوكة للشعب من عمليات السطو المسلح عليها من أى جماعة أو عصابة تصل إلى السلطة، من خلال النص الدستورى القاطع والصريح (المادة 72) على استقلالها التام عن كل السلطات (جماعة الشر قاتلت بشراسة لمنع وجود هذا النص فى دستورها الملعون). ■ حظر دستورى نادر المثال، على فرض عقوبات سالبة للحرية فى كل جرائم النشر والعلانية (المادة 71). ■ التعبير الحر بالتظاهر والاجتماعات والتجمعات السلمية حق يمارسه المواطنون طبقا لنظام الإخطار المسبق فقط (مادة 73). وأختم بأن المشروع الدستورى حصن على نحو شامل وصارم كل الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، وقطع بأنها جميعا لا تقبل تعطيلا ولا انتقاصا، ولا يجوز أى قانون ينظمها أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها.. بل أكثر من ذلك حظر مطلقا إدخال أى تعديلات مستقبلية على بنوده المتعلقة بمبادئ الحرية والمساوة، ما لم يكن التعديل متعلقًا بالمزيد من الضمانات (المادتان 92 و226). لهذا كله وغيره الكثير، هيا بنا نقول بملء الفم: «نَعم» للدستور.. صباح الخير.