من حين لآخر يكشف لنا التنقيب والبحث فى تاريخ ومقالات الشخصيات التى تتصدر ساحة فكر الإسلام السياسي، الكثير من تناقضها وتقلباتها، وفى هذا السياق يقدم لنا الكاتب الصحفى والباحث حلمى النمنم فى كتابه (سيد قطب .. سيرة التحولات) قراءة مختلفة لما هو متداول عن سيد قطب. فمثلا دائما يشيع الإخوان وخاصة القطبيين منهم مقولة إن التكفير نتاج التعذيب فى السجون، وتم ترديد هذه المقولة خلال فترة حكم الرئيس السادات، حين كانت علاقة الجماعة مع السادات على أحسن ما يُرام، وحين كانت الصفقة التى أعادهم بها السادات إلى العمل العام قائمة، وكان الهدف المشترك عند الطرفين إدانة التجربة الناصرية ووصمها بكل ما هو سيئ ورديء. ولم ينتبه السادات إلى أن إدانة الجماعة لعبد الناصر خطوة أولى نحو الانقضاض عليه باعتباره وريث عبدالناصر وكل منهما يحمل نفس الشرعية، شرعية 23 يوليو 1952، و يناقش الكتاب من الناحية الفكرية والتوثيقية، هل كان التكفير عند سيد قطب من جراء التعذيب.. تعذيبه هو أو تعذيب غيره من الإخوان فى السجون بعد اصطدامهم بالرئيس عبد الناصر حين حاولوا اغتياله فى ميدان المنشية سنة 1954. والأهم من ذلك كيف نفسر ظهور التكفير عند سيد قطب بينما لم يظهر شيء من ذلك لدى شهدى الشافعى ومحمود أمين العالم ولويس عوض وإسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى وفؤاد سراج الدين، بل ولدى العلامة المحقق الشيخ محمود شاكر؟ الإجابة لدى المؤلف بسيطة وهى أن التكفير، أى رفض وجود المختلف، كان سمة فى تفكير وكتابات سيد قطب، بل يمكننا القول إنه عند سيد قطب، فى البدء كان التكفير. ولم تكن تلك الآراء عارضة لدى سيد قطب ولا طارئة عليه، وكان يمكن أن يعيد النظر فيها ويراجعها ثانية، لكننا نلاحظ أنه أخذ يعمقها بعد ذلك ويتوسع فيها طوال سنوات عمره، أى من سنة 1965 لحظة القبض عليه آخر مرة. من نصوص كتبه ، يرى المؤلف اننا بإزاء مجموعة أفكار قال بها سيد قطب، وستظل محور حياته بعد ذلك: أولاً: إن الوطنية بمعناها المصرى الذى نعرفه ليست مقبولة ولا مكان لها عنده، ولكنه يؤمن بالوطن الإسلامى الكبير، ولعل هذا يذكرنا بحديث المرشد السابق مهدى عاكف عن أنه لا غضاضة لديه فى أن يحكمه ماليزى مسلم ومقولته “طظ فى مصر”. ثانياً: إن أساس الحكم هو بما أنزل الله.. الحكم بالشريعة الإسلامية. ثالثاً: من لا يحكم بهذه الشريعة فهو كافر أو عديم الإيمان، ومن يقبل أن يحتكم إلى غير الشريعة (القانون الوضعي) هو غير مؤمن، ومن ثم فإن عدم الإيمان هو من نصيب الحاكم والمحكوم، أى المجتمع كله. رابعاً: طاعة الحاكم مقترنة بالتزامه بالحكم بما أنزل الله، فإن فسق عنها فلا طاعة له. خامساً: يكفى للمحكوم ألا يطيع الحاكم، بل يجب عليه الجهاد ضده، هو لا يقولها كدعوة أخلاقية أو نداء سياسي، ولكنها هنا حالة وجوبية أى فريضة. سادساً: سوف نلاحظ أن المفردات عنده لا تعرف المصطلحات الحديثة مثل المواطن.. الفرد.. الإنسان، بل عنده حاكم ومحكوم.. العبيد.. القرود.. عدم الإيمان.. الكافرون. كل هذه الآراء والأفكار ولم نصل بعد إلى مرحلة “معالم فى الطريق”، حيث توسع فى مفهوم الجاهلية والتكفير، قائلا : “إن العالم يعيش اليوم كله فى جاهلية” وجاهلية اليوم أخطر إنها تسند الحاكمية إلى بشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً. إذن فكرة الجاهلية والتكفير، تكفير المسلمين حكاماً ومحكومين قديمة لدى سيد قطب، ورصد كتاب حلمى النمنم فى الفقرات السابقة قصة ظهورها لديه منذ سنة 1947، مع كتابه “العدالة الاجتماعية فى الإسلام”، وللحق فإن فكرة تكفير المسلم عموماً والخروج على الحاكم بالسلاح أو الجهاد ضده ليست من اختراع سيد قطب، هى قديمة فى التاريخ الإسلامى وتعود إلى الخوارج وزمن “الفتنة الكبري”، ألم يقتل أحدهم عبدالرحمن بن ملجم الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه لأنه فى نظره خرج عن الإسلام؟! ولكن الجديد لدى سيد قطب- كما يقول حلمى النمنم فى كتابه- أنه أقحم هذه الأفكار على الساحة المصرية، التى عرفت من الإسلام وسطيته وسماحته، فمن أين جاءته هذه الأفكار؟ الإجابة قام بها العلامة الهندى “أبو الحسن الندوي”، وقد أتيح للندوى أن يتعرف إلى سيد قطب منذ سنة 1950 فى زيارة له إلى القاهرة، ويرى الندوى أن سيد قطب قرأ كتاب أبو الأعلى المودودى “المصطلحات الأربعة فى القرآن” وهذه المصطلحات هى الإله.. الرب.. العبادة.. الدين، لكن المشكلة أن سيد قطب لم يتعامل مع كتاب المودودى بروح وعقلية الندوي، أقصد العقلية النقدية، كان موقفه مختلفاً تماماً، وينتقد الندوى بشدة تركيز سيد قطب ومن قبله المودودى على مفهوم الحاكمية.