اهتزت مشاعري وأنا أشاهد علي إحدي القنوات الفضائية جمعا من الشباب اللبناني القومي, وهم يطوفون بالشموع حول صورة جمال عبد الناصر القائمة في ميدان باسمه وسط بيروت; احتجاجا علي واقعة تحطيم تمثال له في بنيغازي بليبيا, علي يد بعض الموتورين. لقد كانت هناك دائما بين جمال عبد الناصر واللبنانيين علاقة حميمة, استمدت من وضع لبنان الخاص, والمشاعر القومية للبنانيين, ولقد احترم جمال عبد الناصر ذلك كله; سواء كان نظام الحكم معاديا أو محايدا. وبعد الوحدة المصرية السورية, فإن الوفود اللبنانية إلي دمشق لم تتوقف أبدا عن لقاء جمال عبد الناصر في أثناء وجوده بها بمناسبة نشأة الدولة الجديدة, وفي أعياد الوحدة, وغيرها من المناسبات الأخري. ولقد كنت كلما أزور لبنان بدعوة لحضور مؤتمرات أكاديمية, يتدفق علي الحضور, وأول ما يقولونه لي: لقد التقينا بالرئيس في دمشق أثناء الوحدة, لقد كنا نذهب خصيصا لرؤيته, ونظل الساعات منتظرين طلة! حتي لقد خيل الي أن كل لبنان كانت تنتقل الي سوريا في تلك الأيام! بل إن معظم من التقيت بهم كانوا يخرجون من محافظهم خطابات وصورا موقعة منه! وأثناء إعدادي لخطب والدي, اكتشفت أنه كان يتحدث الي الوفود اللبنانية أكثر من مرة في اليوم الواحد; أحاديث كلها مشاعر وحماس. ففي وفد المحامين اللبنانيين, وجه كلمة في أثناء الاحتفالات بقيام الوحدة, في1958/3/1 قال فيها: لقد أتاحت لي هذه الأيام القليلة أن أشاهد لأول مرة لبنان علي حقيقته. أنا لم أزر لبنان من قبل, ولكن هذه الأيام التي التقيت فيها بإخوتي الذين وفدوا من لبنان, كانت لها آثار عميقة في نفسي. في الحقيقة رأيت الحب.. المحبة التي تربط بين القلوب, كما رأيت التضامن والنفوس الطاهرة; كان هذا يظهر أمامي في كل وجه من وجوه إخوتي في لبنان, الذين التقيت بهم في هذه الأيام القليلة. وأثار فضولي أن جمال عبد الناصر لم يذهب الي لبنان ولا مرة خلال سنوات الوحدة الثلاث والنصف! وخاصة بعد سقوط نظام كميل شمعون, ووصول فؤاد شهاب الي السلطة! وأخذت أبحث; فعرفت أن جمال عبد الناصر التقي به في25 مارس1959, في خيمة علي الحدود اللبنانية السورية, وأطلق عليه لقاء الخيمة! تأكيدا لاستقلال لبنان, وإشارة الي عدم التدخل في الشئون الداخلية اللبنانية. لقد كان في ذلك الوقت للبنان وضع خاص احترمه جمال عبد الناصر, وكانت الصحافة اللبنانية تعكس الصراع حول القومية العربية من جهة, والاستعمار والصهيونية من جهة أخري, بل إن المعارك الأيديولوجية بين التيارات الفكرية المتعددة في العالم العربي, اتخذت من لبنان مسرحا لها. وعندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا في22 فبراير1958, اهتز لها الغرب وإسرائيل, وبدأت المؤامرات. ولقد جسد كميل شمعون كل هذه الأحقاد, وأخذ ينكل بالمصريين في لبنان ويسئ معاملتهم. وقد واجه جمال عبد الناصر هذا الموقف العصيب; بأن أصر علي عدم المعاملة بالمثل, بل وطمأن اللبنانيين في مصر بأنهم في بلدهم. ففي وثيقة بخط يده, سطر تصريحا علي لسان سعد عفره رئيس الاستعلامات بأن الإجراءات الاستفزازية التي يتبعها حكام لبنان ضد مواطني الجمهورية العربية المتحدة; من اعتقال وتعذيب وإرهاب وطرد, تدل علي أن هؤلاء الناس فقدوا عقولهم, ولا يزالون يحاولون ايجاد الأسباب لاستفزاز الجمهورية العربية المتحدة; حتي تتحول الخلافات الداخلية في لبنان الي خلافات مع الجمهورية العربية المتحدة... ومن الواضح أن حكام لبنان يتمنون من صميم قلوبهم, أن يعامل رعايا لبنان في الجمهورية العربية المتحدة بنفس الأسلوب; حتي يكون ذلك لهم حجة لتوتر العلاقات بين الشعب العربي في كل من البلدين. إن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لن تعامل الشعب اللبناني في بلادها نفس المعاملة; لأنها لا تعتبره مسئولا عن ذلك, ولا تريد أن تحمله مسئولية الأعمال الاستفزازية التي يقوم بها حكام لبنان. وفي اليوم التالي لغزو القوات الأمريكية للبنان في15 يوليو1958, صرح جمال عبد الناصر.. إن احتلال القوات الأمريكية للبنان يشكل خطرا علي السلام في الشرق الأوسط, واعتداء خطيرا علي ميثاق الأممالمتحدة, وتهديدا سافرا للدول العربية, التي رفضت أن تخضع للاستعمار... إن إقدام أمريكا علي هذا العدوان الخطير, تحت عذر تدخل مختلق نسب إلي الجمهورية العربية المتحدة, وتولت الأممالمتحدة تكذيبه رسميا... إنما يفضح النيات الأمريكية تجاه الشعوب العربية المستقلة, ومحاولاتها لإخضاعها, والسيطرة عليها. ودعا جمال عبدالناصر الي حشد القوة العربية لمواجهة احتلال لبنان بالقوات الأمريكية, واحتلال بريطانيا للأردن الذي تم في نفس الوقت, وطالب بانسحاب القوات الغازية من كلتا الدولتين العربيتين. لقد كان الوضع في لبنان خطيرا جدا, ينبئ بحرب أهلية, وفي31 يوليو1958 قابل ريموند هير السفير الأمريكي في القاهرة جمال عبد الناصر الوثيقة فيwww.Nasser.org طالبا توسطه لدي المعارضة اللبنانية, فرد عليه قائلا: إنه تصور خاطئ أنني أستطيع أن أتدخل لدي المعارضة اللبنانية لإنهاء الأزمة. إن الذي يثير قلقي في المشكلة; هو هذه الدماء التي تسيل, ولكن حكومة لبنان أدخلتني طرفا في المعركة منذ أول يوم; وبذلك لم أعد أستطيع أن أعرض وساطتي. الحل الوحيد هو أن نحاول معا الولاياتالمتحدة والجمهورية العربية المتحدة أن نقوم بجهد مشترك لحل الأزمة; كل منا لدي طرف. وعندما تساءل السفير الأمريكي.. ألا تستطيعون بنفوذكم الشخصي التدخل لدي المعارضة اللبنانية لإنهاء الأزمة؟ رد الرئيس.. زإن التدخل الحقيقي في مشكلة لبنان جاء من ناحيتكم; فلقد ألقيتم بثقلكم مع فريق, وضد فريق. إن الحكومة الأمريكية تتجاهل التطورات الموجودة في المنطقة بأسرها; إن المنطقة كلها تحكمها نزعة ترفض أن تقبل الخضوع, وتثور علي السيطرة... وإجابة عن سؤال السفير الأمريكي.. هل ترون أن هناك حلا بالذات؟ أجاب الرئيس.. يخيل إلي أن اقتراح الكتلة الثالثة; اقتراح أن يتولي رياسة الوزارة شخص محايد يثق فيه الجميع; يمكن أن يوقف القتال, ويتيح فرصة أمام جميع الاحتمالات. وكان هذا الحل فعلا هو الذي أنقذ الوضع في لبنان وأدي الي حقن الدماء. وعندما وقع الانفصال في28 سبتمبر1961, قوبلت أنباؤه بوجوم تام في جميع الدوائر اللبنانية, وقد تجمهرت جموع غفيرة من الشعب أمام أجهزة الراديو في المقاهي والمحال العامة للوقوف علي تطورات الموقف أولا بأول. وكان للبيان الذي أذاعه الرئيس جمال عبد الناصر رد فعل قوي في نفوس الشعب; فتدفقت جماهير كبيرة علي سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بيروت لإعلان تأييدها للوحدة العربية واستنكارها لحركة التمرد الرجعية. وقامت في اليوم التالي للحركة الانفصالية السورية مظاهرة كبري ضمت ألوفا من أبناء بيروت ومختلف البلاد العربية; تأييدا للجمهورية العربية المتحدة, واستنكارا لمؤامرة الانفصاليين. ويتضح من مباحثات جمال عبد الناصر مع الرئيس اللبناني شارل حلو, في3 مايو1965, دعائم سياسة الجمهورية العربية المتحدة تجاه لبنان, فقد قال له: يحاول البعض أن يدخلونا كطرف, ونحاول أن نخرج من هذا; لا يمكن أن نكون طرفا في مواضيع شخصية, نحن نكون طرفا في مواضيع مبدئية... ولا يمكن بأي حال أن نشجع أي مشاكل طائفية. وبالنسبة لموضوع إسرائيل.. في رأيي أن من أول أهداف اسرائيل حتي في مشروعاتهم القديمة مدخلهم نهر الحاصباني... وجزء كبير من جنوب لبنان. هذه المشاريع لن يتكلموا فيها, لكن لما تقصروا لا بد أن اسرائيل تتوسع... اسرائيل لها أطماع في سيناء, لها أطماع في الأردن ولبنان وسوريا. واسرائيل إذا أحضرت5 ملايين واستوطنوا; معني هذا أنها لا تستطيع أن توكلهم, ولا أن تستوعبهم; لا بد أن تتوسع, من هنا تظهر قضية العمل العربي الواحد; إن القيادة العربية الموحدة عملية مزعجة لاسرائيل. وبعد العدوان الاسرائيلي في1967, واستقالة جمال عبد الناصر في9 يونيو, كان اللبنانيون أول من خرجوا الي الشوارع مع المصريين; يرفضون ذلك القرار, ويطلقون الرصاص في السماء صارخين.. أن استمر معنا, فنحن معك في السراء والضراء, ولا نرضي عنك بديلا! ولن أتحدث عما فعله اللبنانيون في28 سبتمبر1970, ولا عن برقيات التعزية التي تهز المشاعر, والتي ما زلنا نحتفظ بها, ولا عن مظاهر المحبة التي لا أري لها مثيلا, والدائمة حتي اليوم. إذن ليس بغريب ما فعله اللبنانيون حول صورة جمال عبد الناصر في بيروت, وهي مكان تمثال كان له, حطمه الاسرائيليون بعد اجتياحهم العسكري للبنان في6 يونيو1982! وأقول هنا إن العبرة ليست بالتماثيل, وإنما بالمشاعر الجياشة التي تهز الوجدان, وتعبر عن الاخلاص للقضية القومية الخالدة, وتتوارثها الأجيال. المزيد من مقالات د. هدى عبد الناصر