لنفترض أن المياه التى يشرب منها الناس قد تلوّثت بميكروب ما فأصيب عدد منهم بالمرض، ثم أصبح هذا المرض معدّياً قابلاً للانتشار. تُرى أيهما أجدى أن نفعله فى هذه الحال: أن نعزل كل شخص يُصاب بالمرض أم نتوجه مباشرة لتطهير المياه من مصدر التلوث باعتبار ذلك هو أصل المشكلة؟ هذا سؤال يستحق النقاش ونحن اليوم فى معرض الحديث عن مكافحة التطرف الدينى والعنف المنظم. بالطبع سيتوجب علينا فى المدى القصير عزل المصابين بهذا الداء ( ومواجهة ) حالتهم بما يلزم اتخاذه من إجراءات. لكن سيظل واجباً فى كل الأحوال والأوقات معالجة مصدر التلوث ذاته، وإلا فإن العدوى ستظل قابلة للانتشار ولن يتوقف المرض ذاته، وربما يقوم الفيروس بتحوير نفسه فى أشكال جديدة من الفيروسات المراوغة والفتّاكة. مصر اليوم ومعها العالم العربى كله تعيش شيئاً من هذا القبيل. فالتطرف الدينى خرج من دائرة العمل الدعوى إلى ممارسة العنف. ثم انتقل من الممارسة الظرفية للعنف إلى طور العنف الأيديولوجى المنظم . ثم خطا فى مرحلة تطور تالية ومعاصرة الى إنشاء الجيوش العسكرية أو ما يشبه الجيوش مثل تنظيم « داعش» و « القاعدة» وغيرهما. هكذا لم يعد التطرف أو الغلوّ الدينى يقتصر على استخدام أدوات التأويل أو الاجتهاد أو استنباط الأحكام بل أصبح يستخدم القنبلة والمدفع والمتفجرات بأكثر من أى جهد آخر يبذله على الصُعُد الفقهية والفكرية والدعوية. وأصبح المشهد برمته يستقطب كل يوم أعداداً كبيرة من الجهاديين تمثل نواة لجيوش صغيرة. من هنا تتداعى الأسئلة : من أين أتى هؤلاء الجهاديون ؟ وكيف تلاقت أفكارهم ؟ لم يعد فى الإجابة عن مثل هذه الأسئلة كلام جديد يُقال. ليس ثمة جديد فى الحديث عن أعراض التطرف الدينى المسلّح ولا مظاهره أو أشكاله أو فى القول بضرورة المواجهة الأمنية الشاملة لقوى الإرهاب المتدثر بالدِين . ما نحتاج إليه اليوم هو التساؤل بوضوح عن كيفية الوصول إلى حاضنات التطرف الدينى التى توفّر له فرص النشوء والنموّ والانتشار. ويوم ننجح فى تحييد دور هذه الحاضنات فإننا ننجح فى تجفيف منابعه وخنق فرص نموّه منذ البداية. بالطبع هناك حاضنة سياسية ما زالت تفرّخ منذ عشرات السنين قوى العنف الدينى سواء عن قصد أو غير قصد حينما خنقت قنوات العمل السياسى الحزبى بينما كانت تيارات التطرف تسرح وتمرح بين الشباب بقوى دفع ذاتى لأنها لا تحتاج أصلاً إلى قنوات العمل السياسى الحزبي. وهناك أيضاً حاضنة اقتصادية قوامها الفقر والمعاناة والبطالة والشعور بالتهميش وانسداد الأمل . لنتجاوز مؤقتاً الحديث عن دور هذه الحاضنات فى صناعة التطرف. ما أود التركيز عليه هنا هو دور الخطاب الدينى كحاضنة لقوى التطرف والعنف الديني. هذا الخطاب الدينى المتطرف هو أول حاضنة ينبغى تعقيمها وتحييد دورها فى إطلاق غرائز العنف من عقالها. فلدينا فى مصر والعالم العربى خطاب دينى يعتمد (ويحتكر) على مستوى الأحكام والتفصيلات تأويلاً يتعارض مع المبادئ والمقاصد الإسلامية. هذا الخطاب ظلّ على مدى عشرات السنين يتردد على منابر وفى جنبات المساجد بل وأحياناً ( وهنا مبعث المفارقة ) فوق بعض المنابر الإعلامية التابعة رسمياً للدولة المصرية وغيرها من الفضائيات الخاصة الغامضة . ليس الهدف هنا هو دحض مفردات خطاب التطرف الدينى فهذا هو دور الفقهاءوالمفكرين الإسلاميين المستنيرين، وهو أيضاً دور المؤسسات الدينية مثل الأزهر الشريف لكن الهدف هنا هو معرفة كيف يمكن تحييد دور حاضنات التطرف على صعيد الخطاب الدينى فوق منابر المساجد وفى المناهج الدراسية وفى أدوات الثقافة والفن والإبداع بشرط أن يتم ذلك بعيداً عن خطاب التحريض على الكراهية او التحقير وإلا فإننا سنعيد إنتاج الخطأ نفسه لنستبدل التطرف بتطرف مقابل ؟ قد يرى البعض أن تصحيح الخطاب الدينى المتطرف يحدث اليوم بالفعل لكن أين كنا منذ عشرات السنين ؟ فهذا الحصاد المر الذى نجنيه اليوم هو ما حدث غرسه وسقايته ورعايته على امتداد عشرات السنين. علينا ألا نسرف فى الأمل كثيراً لأن عقلنة الخطاب الدينى وأنسنته سيحتاج منا إلى مدة طويلة. المهم أن نبدأ. وأن تكون البداية فورية وجادة ومدروسة وطويلة النَفَسْ . فقد علّمتنا تجارب الماضى أن الحماسة لفكرة أو لمشروع تأخذنا فى البدايات إلى الذُرى ثم سرعان ما تخبو وتتراجع حتى تكاد تنطفئ. يتساءل المرء أحياناً أين كتب الإمام المستنير والمفكر التقدمى محمد عبده؟ لقد بادرت مكتبة الأسرة منذ سنوات بتقديم المجموعة الكاملة لأعماله فى طبعة فاخرة قام بتحقيقها الدكتور محمد عمارة. لكن كان يمكن تعظيم فائدة هذا العمل الفكرى الكبير وتوسيع دائرة انتشاره لو تم إدراجه ضمن المناهج الدراسية لطلابنا. كان وما زال ممكناً فى نفس السياق اعتماد كتاب المفكر الكبير عباس محمود العقّاد « التفكير فريضة إسلامية» ليكون هو الكتاب السنوى المُقَرِّر ضمن منهج اللغة العربية لطلاب المرحلة الثانوية. فكرٌ من هذا النوع وبهذه الاستنارة هو وحده القادر على تحييد فيروس التطرف والغُلوْ فى الخطاب الديني. أما تصحيح الخطاب الدينى فى المساجد والزوايا فلا يكون بتوحيد خطبة الجمعة فى المساجد او باقتصار الخطبة على من تُرخص لهم بذلك وزارة الأوقاف. هذه أدوية لأعراض التطرف . أما معالجة مصدر التطرف وجذوره فيكون بإعادة التأهيل الفكرى لخطباء المساجد أنفسهم ليس فقط انطلاقاً من حكمة أن من شبَّ على شيء شاب عليه بل أيضاً استناداً لمنطق أن فاقد الشيء لا يعطيه. فمن أين يستمد متلقى الخطاب الدينى الاستنارة والعقل إذا كان صاحب الخطاب نفسه يحتاج إلى قدر كبير منهما ؟! --------------------------- قالوا : « البعض يستوحش طريق الحق لقلة سالكيه « لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم