تذكرتها.. عندما كانت الوزارة بكامل هيئتها ووزرائها وشماشرجياتها تترك مكاتبها ودوائرها وأعمالها تصحبها جوقة المستشارين ورجال الأعمال والإعلام والمذيعين والمذيعات للالتقاء الملتزم عند نقطة الإشعاع الرئاسى المعاد طلائها وزرع أشجارها ورص زهورها ومرضاها وطاقم أطبائها وأطفال استقبالها بمناسبة افتتاح غرفة للغسيل الكلوى بإحدى الجمعيات الأهلية ليلاحق كل مسئول ميكروفون قناة لشرح منهجى متقعر لدور الغسيل على أجندة الوزارة، وفلسفة وضعية الكُلى «بضم الكاف» فى التنمية البشرية والبنية التحتية وتنظيم الأسرة والقضاء على الأمية وختان البنات والتقويم الهجرى والدفع الرباعى وأبى حماسة القللى و..الخ وذلك من بعد تلاوة آيات الذكر الحكيم والكلمة الرسمية المدججة بعشرات الميكروفونات على منصة افتتاح المغسلة المبجلة.. تذكرت تلك المسرحيات عندما شاهدت على الشاشة فى بيتى ومعى ملايين المشاهدين فى بيوتهم إلى جانب الضيوف الحضور داخل قاعة الاحتفال افتتاح 23 مشروعا جديدا من مستشفيات وفنادق وكبارى وطرق وحضانات ومراكز وحدائق وسقوف وبيوت و50 ألفا من الأيدى العاملة المدنية، ولأول مرة فى الشرق بنك للخلايا الجذعية، وصروح حضارية ومزلقانات تم تنفيذها ونحن لاهون نتعارك على جبهتى القتال فى معركة خاسرة بين مشجعى 25 يناير ومشجعى 30 يونيو، وكأن الأم المصرية لم تنجبهما معاً من نفس الرحم، وأتاها المخاض على أرض الوطن الواحد، تماما كما أنجبت لنا من قبل للخناق والألتراس وسفك الدماء التوءم اللدود الأهلى والزمالك لكن وللعجب أحدهما نزل بشرطة والآخر بشرطتين.. تذكرتها عندما تم عرض الإنجازات ال23 التى ستُغيّر من وجه مصر تزامنا مع مشروع قناة السويس الجديدة دون انتقال المواكب والمسئولين وغلق الشوارع والميادين.. فقط لم يستغرق عرض كل إنجاز سوى دقائق معدودات بدأت بالاستئذان: تمام يا فندم.. وانتهت من الرئيس ب: شكرا يا فندم.. الشحرورة سألت عنه مشرف الدور السادس بالأهرام فأجابنى بانفعال يكاد يدفعه إلى أن يترك مقعده ليصحبنى بنفسه إليه.. وعجبت للرجل الذى أعهده هادئا لا مباليا مكتفيا بهز رأسه للأمام بمدلول الإيجاب، وعلى الناحيتين فى إيجاز النفى أو عدم العلم أو لا تسألنى من أصله.. عجبت من أنه واقف مش على بعضه متطلعا بهيام إلى بعيد لباب حجرة مكتب الكاتب الكبير الدكتور يوسف إدريس الواقع فى نهاية الممشى على الشمال، حيث طرقت الباب ودخلت فوجدتهما.. هى وابنتها مرة واحدة.. صباح وهويدا.. جالستان تلمعان بوضعهما الفتان تحت شلال الشعر الأشقر أمام الكاتب الغلبان الذى لا حول له ولا قوة فى مواجهة قوة الإغراء الثنائية، فما كان منى إلا أن تفوهت غصبا عنى أقول: حرام عليكم واحدة واحدة عليه.. الرجل مش حملكم معا خاصة وأنه لسه خارج من جراحة كبيرة فى القلب.. وكنت صادقة فالجو مشبع بمغناطيسية الانجذاب والمثول، وأتانى رد الثلاثة ضحكات مرتفعة، ولما لم أدع للجلوس رحت لحالى وتركت يوسف إدريس الخارج من النقاهة فى مركز الدوامة وصاحبتها التى تحبها وتغنى لها. من قبلها بعديد من السنوات قام رئيس التحرير صاحب القلم السياسى التليد والنقد الفنى الفريد وقصة حب نتداولها سرا وعلانية بطلتها الشحرورة التى غنت له: آه يا معلم يا معلم.. قام بعقد قرانه على زميلتنا الخجول التى تتدرج وجنتاها بدماء الكسوف لمجرد كلمة إطراء أو سماعها عبارة تخرج عن مألوف هزارنا المدرسى الطابع، وحضرنا حفل الزفاف فى الكنيسة، وبعد عودة العروسين من شهر العسل ذهبنا للتهنئة ففوجئنا بالزميلة التى كانت ترتدى الثوب المتزمت المغلق حتى الزور مع الجزمة الزحافى والشراب السوكيت القصير تستقبلنا بروب أحمر شيفون شفتشى وشبشب ساتان بورد ريش وكعب نايلون مع روج شفاه فاقع يرسم شفاها فوق شفاهها: أعمل إيه يا بنات لازم أكون قدها.. قد المسئولية. كلكم عارفين أنا جاية بعد مين!! شمس الشموس بعدما غربت عنها الشمس أصبحت تتحسس الخطى، فالوقوع فى مثل عمرها لا تحمد عواقبه مع جسد رهيف نحيف حافظ على رشاقته رجيم الزيتون والجبن حتى بات مجففا تتخمه زيتونة، يهوى إلى الأرض لمجرد الالتفاف، كما حدث لها منذ أكثر من عام فى مجمع بورتميليو السياحى على شاطئ جونيه حيث وقعت وكسر كتفها لتدارى صباح أسباب الوهن الحقيقية بأنها قد حسدت بعين بصاصة.. فى عزلتها القسرية تخرج الصبوحة إلى شرفة غرفتها بفندق الحازمية بشرق بيروت حيث المستقر الأخير بعدما فقدت بيتها وخسرت أثاثها وضاعت فساتينها وتبدد حلمها فى أن يضم تراثها السمعى والبصرى وتمثالها الشمعى بالحجم الطبيعى معرض دائم مثل كبيرات نجوم هوليوود الذى كاد زوجها السابق فادى لبنان أن يخرج به إلى حيز الوجود فقد كانت أول فنانة عربية وقفت على مسرح الأولمبياد بباريس فى منتصف السبعينيات، وعلى مسرح كارناجرى هول فى نيويورك، ودار أوبرا سيدنى فى استراليا، وقصر الفنون فى بلجيكا، وألبرت هول فى لندن، ومسارح لاس فيجاس وعواصم العالم العربى، وصنعت الدويتو الغنائى مع أنريكو ماسياس فى التليفزيون الفرنسي.. رحلة حياة ابنة الحلاق جانيت فغالى المولودة في10 نوفمبر1927 قرب وادى الشحرور الذى أتى منه لقبها الشهير الشحرورة والتى جاءت إلى مصر لمقابلة المنتجة آسيا تحمل خطابات توصية من شخصيات لها وزنها فى لبنان مثل رياض الصلح رئيس الوزراء لشخصيات لها وزنها فى مصر مثل إحسان عبدالقدوس وعلى ومصطفى أمين، وتعاقدت معها آسيا على بطولة فيلمين من إنتاجها «القلب له واحد» و«هذا جناة أبي» نظير أجر قدره مائة وخمسون جنيها عن كل فيلم، وتحولت جانيت الفتاة التى تبحث عن فرصة للغناء إلى الفنانة صباح وكان من اختار لها هذا الاسم الشاعر صالح جودت، ويرتفع الأجر مع فريد الأطرش إلى ثمانية آلاف لفيلم بلبل أفندى ثم عشرة آلاف مع يوسف وهبى لتمثيل دور ابنته فى فيلم «شمعة تحترق» عندما أسندت البطولة لعزيزة أمير، وما بين «القلب له واحد» الذى غنت فيه «وشوشة» للسنباطى من إخراج بركات عام1943 إلى آخر أفلامه «ليلة بكى فيها القمر» عام1980 مع حسين فهمى الذى تروى فيه قصتها مع وسيم طبارة الزوج قبل الأخير، وقدمت 85 فيلما وأكثر من ثلاثة آلاف أغنية والعديد من المسرحيات الغنائية بلغت ال16مسرحية. العاشقة الغلبانة بالقوى قيل الكثير عن حبها للحياة، وقد يصح القول بأن الحياة كانت هى التى تحبها فمبدؤها كان طنش تعيش و«يا دلع دلع» و«يمينك لف شمالك لف لحد حبيب القلب» وقف الأغنية التى ترجمت للروسية لتكون الأسطوانة الأكثر مبيعا هناك... وقد توقفت صباح عند أكثر من حبيب لتتزوجه.. نجيب الشماسى والد ابنها صباح الذى طلقت منه عام1947 وأنور منسى والد ابنتها هويدا، وأحمد فراج الذى تزوجته عام1960 لمدة ثلاثة أعوام، ورشدى أباظة الذى لم يدم زواجها به أكثر من عام، ووسيم طبارة، وفادى ودام زواجهما 17 عاما.. وتزوجت من الأمير خالد سعود فى عام1969 ولم يدم الارتباط سوى شهر واحد ثم كان الانفصال بسبب طلبه منها اعتزال الفن، وقيل عن زواجها لمدة ساعات من الملحن بليغ حمدى الذى عقد قرانه عليها فى إحدى السهرات.. تزوجت فادى وكان عمره21 عاما وعمرها75 عاما ليطلق من أجلها إليان خوري.. ويسألون عمر محيو ملك جمال لبنان ابن ال25ربيعا آخر حبيب فى مسلسل رجالات صباح: هل حدث وأنت تراقص صباح أن حمل النسيم شعرها إلى وجهك؟.. فأجاب ضاحكا: هذا جائز لأن أحدا لا يتحكم فى النسيم حتى مصلحة الأرصاد. صاحبة الأغنية التى أثارت رقابة المصنفات الفنية «باحبك بشدة» من ألحان الموجى فى فيلم "الأيدى الناعمة" وأجيزت بعد طول جلسات ومناقشات كان لها الكثير من الأغانى التى دخلت كلماتها وألحانها فى نسيج التعبيرات المصرية الحميمة مثل «الغاوى ينقط بطاقيته»، و«عالبساطة»، و«حبيبة أمها»، و«بين الأهلى والزمالك»، «احترت والله»، و«حسونة ما ترد عليّ»، و«لأه لأه»، و«جينا الدار نسأل ع الحبايب»، و«يانا يانا» لبليغ حمدى و«عالضيعة»، و«الراجل ده هيجننى» ألحان عبدالوهاب، وفى عام1966 وأثناء العمل فى فيلم نار الشوق الذى ظهر فيه حسين فهمى لأول مرة بطلا وشاركت هويدا فى التمثيل أجبر رشدى أباظة تحت تهديد السلاح الملحن بليغ حمدى أن يتنازل كتابة لصباح عن أغنية «عاشقة وغلبانة والنبي» من كلمات محمد حمزة التى كان قد لحنها لوردة.. وتعود صباح للقاهرة بعد غيبة أربع سنوات أثيرت فيها أقاويل وإشاعات لتغنى فى حفل أضواء المدينة تعبيرا عن شوقها للقاهرة من كلمات الشاعر الكبير فاروق شوشة: راجعة والشوق فى العيون جاية للصدر الحنون.. وأبدا لم تكن أيام صباح كلها زى العسل لكنها امرأة لكل العصور الحلوة والمرة، ويكفيها فى حياتها حادثان مفجعان أولهما عندما كانت مع شقيقاتها عائدات من مدرسة الجيزويت وقت الظهيرة وكانت جولييت الأكبر سنا تمشى كعادتها فى المقدمة، وإذا بصوت فرقعة مرتفع ولوهلة لم يدرك أحد ماذا حدث إلا بعد الإفاقة على مشهد جولييت مضرجة فى دمائها على الأرض بعد إصابتها برصاصات قناص مجهول.. والحادث الآخر راحت فيه أمها وأخوها معا وذلك عندما كبرت فى مخ الابن بأن والدته على علاقة بأحدهم فما كان منه إلا أن أردى الأم والرجل بالرصاص ليهرب بعدها إلى البرازيل.. و.. تنسى صبا ح أو تتناسى المشهدين وتغنى وتغنى، ويضع الناقد الكبير عبدالقادر القط أغانيها فى ميزان النقد الفنى ليقول: جميع أغانى صباح هادفة ويجب الاستماع إليها لأنها تعبر عن روح العصر».. وإذا ما كانت الصبوحة قد عرفت كيف تعيش حياتها الخاصة والفنية فهى لم تعرف كيف تدبر أمورها المادية ولا أن تضع تحت البلاطة شيئا للزمن، فتضطر فى شيخوختها إلى القبوع فى حجرة فندق يدفع إيجارها أحد الأصدقاء بعد أن أهدرت الكثير من المال من جراء سخائها وزواجاتها، وذات يوم، جلست فيه أمام جبال الذكريات لتقول: «لم يعد معى من الأصدقاء سوى مصفف شعرى جوزيف غريب.. عايزة أموت فرحانة والعزاء بالدبكة وعدم ارتداء السواد. فى أمريكا رغم وجود أولادى صباح وهويدا أشعر بالوحدة بعيدا عن أرض فنى وجمهورى وجبل لبنان. عندما يكون الفنان فى بداية عمره يمشى زى الديزل وبعدها يقعد فى السبنسة شايل على أكتافه عمره ومرضه. قلبى تعب من كثرة الحب. أنا ست واضحة وغيرى كثيرات يتزوجن عشرين مرة فى الخفاء. تجاربى كلها معلنة ومطروحة لمناقشة ودردشة وإشاعات الجمهور.. أنا أول من قدم الأغنية السريعة البسيطة فكنت الشرارة الأولى للأغنية الشبابية. كنت على علاقة طيبة بكل رجال ثورة يوليو وأحادث الرئيس جمال عبدالناصر بشكل مباشر ويسألنى عن أمورى وأشعر بالاطمئنان فى وجوده، ويوم رحيله بكيت كما لم أبك فى عمرى، وارتبطت بصداقة مع الزعيم الراحل أنور السادات الذى أعطانى بيده جواز السفر المصرى تكريما لفنى، وعندما اعتذرت فى عام1965 عن مقابلة فخامة الرئيس شارل حلو فى مهرجان بعلبك بأنى تعبانة كان بسبب تجاهل القصر الجمهورى طلبى بتحديد موعد لى لمقابلته هذا على الرغم من أن لى علاقات حميمة بكل الزعماء والملوك العرب.. رشدى كان أقصر زواج لكنه الأعمق ومن لم تتزوج رشدى لم تعرف يعنى إيه زواج.. الزمن خارج ساعتى ومحمد عبدالوهاب سجل من غير ليه بعد الثمانين.. أحب اللون التركواز فى فرش البيت والأبيض فى الأزياء. لا أتدخل فى اللحن لأنى غير ملحنة. أنا كده دلوعة دايما. فى حفل تكريمى بالأوبرا فى مصر قابلنى الجمهور واقفا مصفقا، وفى لبنان لا يكرمون الفنان إلا ميتا. اللى تقول إنى أخذت جوزها يبقى ماكانشى عندها ثقة فى نفسها. الحسابات تورثنى الرعشة والقلق. الشهرة يقاسى منها المشهورون أكثر من تذوقهم لذّاتها. لماذا أعتزل طالما الفن لم يعتزلني. حكاية البودى جارد للفنان حركات استعراضية لا معنى لها سوى لفت الأنظار، ثم إن الفنان ليس عضوا فى عصابة المافيا والله هو الحارس الوحيد.. فيروز حبيبة قلبى إنسانة عظيمة وفنانة كبيرة ودائما أنا وهى على اتصال. أحب من أفلامى «ليلة بكى فيها القمر» لأنى قدمت فيه «ساعات ساعات» للأبنودى الأغنية التى عبرت بصدق عن حياتي. سعيد فريحة كان السبب وراء تركى لرشدى أباظة لأنه راح ينشر صورا لسامية جمال وهى بتكنس وتمسح وتعيط عليه وراح الناس يقولوا إنى السبب فى بعده عنها ومن هنا صممت على الطلاق، وشاءت المصادفات أن أسافر للمغرب لإحياء حفل بدعوة من الملك الحسن فأغرمت بزوج أخت الملك مولاى على، وكان بيجنن، وهكذا انتهت حكايتى مع رشدى أباظة، أغرمت بمولاى على وتركت مولاى رشدى، والله يقصف عمر الحب.. عندى أربع أحفاد من ابنى صباح هم دانيا ونجيب وتوءم أسماهما صباح وجانيت. هويدا طول عمرها طبعها أجنبى وحياة بيروت لم تستهوها. المطربة مادونا ترعرعت فى بيتى وهى صديقة لهويدا وعندما أراها أشعر بأن أمامى العروسة باربي.. لا يهمنى سوى أن أنام على ملاءة سرير نظيفة. كان البيت الذى أعيش فيه ملكا لهويدا فاستأذنتها فى بيعه فوافقت خاصة أنها لن تكون فى حاجة إليه من بعدى لأن عندها فى أمريكا شقة من حجرتين. عمرى ما كان عندى رصيد أو شركات باسمى وعندما ولدت ابنى صباح لم يكن معى أجرة المستشفى واستلفت من أحد المنتجين فى لبنان ألف ليرة، وسأموت فى فندق مثل أحمد زكي. فى دندنتى أغنى زى العسل، والحلو ليه تقلان قوى، ويانا يانا التى غنيتها لرشدى من لم ولن أنساه حتى آخر دقة فى قلبى وآخر نفس من عمري. أنا آخر فنانة تقابل الأستاذ عبدالوهاب وكنت مدعوة على العشاء فى بيته بمناسبة عيد ميلاد زوجته نهلة القدسى، وفى اليوم التالى سمعت خبر وفاته، وأتذكر فى أحد أعياد ميلادى أنه قدم لى أغنية «سنة حلو يا جميل».. كانت أول قبلة على الشاشة وأنا فى سن الثامنة عشرة من أنور وجدى فى فيلم «سر أبي». لا أتعامل إلا مع الشخصيات المتفائلة وأكره النكد. أسافر كثيرا ودائما أعود. فى حياتى أكثر من أمير عربى أحدهم كان ينزل فى فندق طانيوس، وفى نفس الليلة التى كنت أغنى فيها كان سموه قد حجز لنفسه المائدة الرئيسية فى الحفل وأرسل إلى حجرتى بوكيه فخم من الزهور النادرة تقديرا لفنى وصوتى كما قال سكرتيره الخاص، ولكى أرد على تحية الأمير ارتجلت موالا لبنانيا، وتطورت قصة حب جديدة فى حياتى أهدانى فيها الأمير فى أوائل الخمسينيات سيارته الكاديلاك، واشترى لى فيلا فى صوفر، وبعدها عرض علىّ الزواج، وكادت الموافقة تخرج من بين شفتى، لكنى توقفت طويلا أمام العرض المذهل فقد كان يطلب منى الاعتزال ولم أكن أقوى على فراق الفن.. أمنيتى أن تشيع جنازتى بالألوان وأن يكون العزاء على رقص الدبكة».. صباح.. مسيرة حياة متفردة عريضة واسعة بالطول والعرض، وكل يوم كان بحال، وكل دقيقة بموّال.. وغالبيتنا يقول: آهى عيشة وخلاص، لكن هناك فرقاً وفارقاً بين العيشة والحياة، وصباح عاشت الحياة فى قمة نجوميتها، ومع مرارة الشيخوخة وأواخر الأيام غدت الصبوحة سنيدة للمطربة «رولا» التى تسلقت على جبال شهرة الشحرورة الغابرة لتغنى أغانيها فى حضورها الثانوي.. وفارق بين بطانة الأبناء التى ساندت الأب وديع الصافى وملأت بالموهبة الموروثة ما بين فراغات الآهات الجبلية ويا عينى ع الصبر، وبين أن تغدو المطربة الأى كلام فى الواجهة ليتقلص أداء صباح فى خلفيتها الباهتة.. وكما غنت الشحرورة بلغة أهل الشام شو فيها الدني!! فقد نالت شمس الشموس أمنيتها عند وفاتها عندما تحرك نعشها فى احتفالية كبرى على وقع رقصة الدبكة، ولأول مرة فى الكنيسة يذكر من مناقب أى راحلة أنها قدمت لوجه الفن ثلاثة آلاف أغنية.. شو فيها الدنى!! تقليب المواجع! المخطئ يروح فى ستين داهية بلا رجعة.. المرتشى يأخذ عقابه الرادع.. أبو ذِمة منخل يتم وأده أسفل سافلين.. المفترى تُفقؤ عينه الشمال.. المفسد تفقؤ عينه اليمين.. الحرامى آكل مال النبى يغور خلف الأسوار بزبانية غلاظ شِداد.. المجرم يٌعلق من عراقيبه.. المعتدى يدخل ولا يخرج من باب العدالة.. المتواطئ فى درَج العقاب الأسفل.. الجانى يستحق الإنذار والخصم ولجنة ثلاثية توصى بالرفت... كل هذا حق ومستحق وعدل وإنصاف ومراعاة للأعراف والشرع والدين، وإحقاقاً للحقوق فى دولة القانون.. ولكن.. أن يتم تنفيذ كل ذلك بقلب ميت من بعد فوات السنين، وبهتان واقعة التلبس، والاتهام المنزوع الدسم ببلوغ سن المعاش، وإخلاء الطرف، واعتماد السنة المالية، وانعقاد مجلس الإدارة والجمعية العمومية، وكلمات التقريظ والدرع الذهبى والميدالية المثالية والكأس التذكارى فى حفل وداع المُحال من قعدة المكتب لقعدة البيت، ومرور الأيام المتعاقبة المتماثلة فى طرقعة زهر الطاولة على قهوة المعاشات، ومشية الصحبة العرجاء على أرض التراك، والعودة لحجرات مظلمة رحلت عنها زوجة العمر التى عاشرت على الحلوة والمرّة، وتأرجحت ما بين مرتفعات العلاوة ومنخفضات الاستدانة، وتعب العيال ومدارس الأولاد وزواج الأنجال وشقاوة الأحفاد، وتسخين الطبيخ البايت، وإشعال السبرتاية تحت كنكة الفنجان اليتيم للجلسة التى فقدت طرف الحوار، وحمام بلا عافية، وغسيل بلا مكواة، ودهن أطراف الروماتيزم، والإغفاءة لدقائق كالوقوع فى الإغماء، ويقظة الوحدة لساعات التوجعات والآهات... أن يتم العقاب وتنفيذ الأحكام والذبح بسكينة تالمة الآن، والضرب فى مقتل بعد مضى المدة، وانقضاء فترة العقوبة، وتبدد جميع الآثار، فهذا له العجب فى دولة العجب!!! أن يشتد الطرق على عجوز الدار المتوحد فيهتز متساندا لفتح الباب لتسلم استدعاء النيابة لإحياء التحقيق معه بشأن واقعة فساد أو رشوة قديمة تم تحديثها حديثا، نسبت إليه زمان أثناء تأدية عمله فى الوزارة البيروقراطية فينزل عليه سهم الله لا يصد ولا يرد ولا يأتى بمنطق، ويكتفى بالتوقيع المرتعش مطرح ما يُشار إليه.. و..يزحف لينهد من طوله فوق مقعده، مستعرضا شريط العمر الوظيفى لتذكر اسم صاحب البلاغ المقدم ضده اعتمادا على مشروع قانون يحول دون إفلات الموظف العام من عقوبة الفساد بمضى المدة، أى بالتقادم... صفوت. صفوت.. صو.. هو صفوت مافيش غيره.. افتكرت كأنه امبارح.. الواد صفوت الحرامى رأس المنسر مسئول الخزينة الذى لم يحوله للنيابة والكلابشات من بعد استعطاف الموظفين بربطة المعلم، وإلحاح زوجته الباكية المصطحبة لمكتبه عيالها المرضى وحماتها العامية المشلولة على كرسى متحرك، مكتفيا بزجره وطرده من مكتبه رافضاً دفاعه الهزيل، ونقله للأرشيف.. أتارى الواد الخسيس مرقّد له فى الذرة.. أتاريه قارش ملحته طول السنين.. أتارى ابن الحرام نَابُه أزرق، وأبدًا لم ينس حرمانه على يديه من تهليب الأذونات واستقطاع الإتاوات وابتلاع الفروقات وتجنيب المستخلصات، فما صدّق أن أتت الآن ساعة الانتقام، ودخلت البهيمة تحت سكين الجزار، وقضى الأمر على الموظف العام، وحان أوان الضرب فى مقتل لمن لم يعد يحتكم على أية أوراق رسمية تثبت براءته، ولا له مكانة ولا صفة ولا سند سوى التمسُح فى لقب السابق، ولا هو صاحب يد عُليا ولا جهة عُليا ولا دوائر عُليا تؤازره، وإنما مجرد عجوز أعزل فى الطريق المستباح أمام هيلمان وصلف مؤسسة ووزارة بأضابيرها وأظافرها.. ثم إن أغلب شهود الواقعة شبعوا موت من زمان، ومن بقى منهم على وش الدنيا يعانى من اختلالات الزهايمر، وليس هناك دوائر للقضاء فاضية فى وقتنا الغارق فى الخِصام، لمدة المائة عام، للتحقيق فى صحة البلاغات القادمة ولابد بارتفاع الجبال، الهارعة للصق الفضائح، المغرمة بتسديد الطعنات، الموكلة سلفاً لإسقاط الهامات، الموجهة لتلويث السمعة، المرتزقة لمعارك القرف لحساب طرف على طرف، المغلولة لله فى لله، الموتورة بحكم الجو العام.. و.. وأبدا ليس هناك مصلحة من تحويل رجال العمل العام الشرفاء المعنيين بالإمساك بمفاصل الدولة وتثبيتها وتشغيلها ودوران ساقيتها إلى مطاريد وأصحاب أيدى مرتعشة من المهد إلى اللحد لنيل عين الرضا من بعض أصحاب الحناجر الهوجاء وتصفية الحساب.. هذا بينما لم يعد هناك بقية فى العمر للمناهدة.. ولا عود على بدء.. ولا وقت للدوران للخلف ولا تقليب للمواجع.. ولا كنت فين يا على وأمك بتدوّر عليك.. ولا البلد ناقصة تشقق وانشقاق!! [email protected] لمزيد من مقالات سناء البيسى