خيبة أمل عميقة أصابت الشعب الأمريكى بعد أن رفضت هيئة المحلفين العليا فى مدينة فيرجسون بولاية ميزورى توجيه الاتهام بالقتل إلى ضابط شرطة أبيض أطلق الرصاص على الشاب الأسود مايكل براون فى أغسطس الماضي. وجاء تعبير الشعب الأمريكى عن احتجاجهم على قرار هيئة المحلفين المكونة من 12 عضوا - منهم 9 أعضاء من البيض و3 فقط من السود - بنزول الآلاف إلى شوارع عشرات المدن الأمريكية من سياتل إلى نيويورك، مرورا بشيكاجو ولوس أنجلوس, كما توجه عدد من المواطنين للتظاهر أمام البيت الأبيض هاتفين “أوقفوا ترهيب الشرطه العنصري” و”حياة السود لها أهمية”. وتنوعت الاحتجاجات بين السلمية وأخرى غاضبة تحولت بعضها الى أعمال عنف، حيث حطم المتظاهرون الغاضبون بعض السيارات التابعة للشرطة، والمحلات التجارية، كما وقعت عمليات سلب ونهب، مما دفع الشرطة إلى استخدام الغازات المسيلة للدموع والهراوات لتفريقهم، كما اعتقلت السلطات المئات وسحلت بعضهم أمام وسائل الإعلام. ويرى خبراء القانون أنه ليس هناك خيار أمام عائلة براون بعد صدور قرار هيئة المحلفين إلا اللجوء إلى رفع دعوى مدنية لطلب تعويض عن وفاته، وسوف تكون المحصلة فى النهاية أن توافق السلطات على تعويضها بملايين الدولارات، مثلما حدث خلال السنوات الأخيرة فى قضايا مماثلة، فقد وافقت السلطات فى مدينة نيويورك على دفع 7.15 مليون دولار لعائلة شون بيل الفتى الأسود الذى لقى حتفه على يد الشرطة فى 2008، وفى شيكاجو حكمت هيئة القضاء بتعويض عائلة فلينت فارمرز الإفريقية بأربعة ملايين دولار، كما حصلت عائلة أوسكار جرانت فى كاليفورنيا على 2.8 مليون دولار فى 2010. والمثير فى الأمر أن قرار هيئة المحلفين فى ميزوى جاء فى وقت متزامن أيضا مع حادث آخر مماثل فى مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، حيث أطلق شرطى النار على صبى أسود يبلغ من العمر 12 عاما كان يلهو بمسدس “لعبة” مصنوع من البلاستيك، وهو جالس على أرجوحة فى أحد المتنزهات العامة، وذلك لمجرد أنه كان يصوبه على بعض الأشخاص الموجودين فى المكان. لكن إذا تفحصنا الأمر بدقة، سنجد أن قرار هيئة المحلفين، وحادث الصبى فى كليفلاند ليسا الدافع الوحيد وراء اندلاع موجه المظاهرات العارمة، وأعمال العنف والسلب والنهب فى العشرات من المدن الأمريكية، بل غياب العدالة وتفشى العنصرية التى طالما حاولت الولاياتالمتحدة أن تخفيها تحت ستار الدولة الديمقراطية، رغم أن رئيسها الحالى باراك أوباما من أصحاب البشرة السوداء. فعلى الرغم من نجاح الأمريكيين السود فى القضاء على العبودية والتمييز العنصري، فإن مجتمعهم ما زال يعانى حتى اليوم من مشاكل عديدة،ووفقا للإحصائيات التى نشرها مؤخرا مكتب الإحصاء الأمريكى والمركز الفيدرالى لإحصاءات التعليم، نجد أن نسبة عدد الأطفال السود الذين يعيشون فى فقر بلغت 37% من بين أطفال أمريكا، ويأتى الأطفال الإسبان فى المرتبة الثانية بنسبة 27%، يليهم الأطفال الآسيويون، حيث يعيش ال11% منهم فى فقر، ويأتى فى المؤخرة الأطفال البيض، حيث يعيش 10% فقط منهم فى فقر. كما يبلغ عدد العاطلين السود عن العمل ضعف عدد العاطلين البيض، وحتى السود الذين يعملون يتقاضون مرتبات وأجورا أقل مما يتقاضاه البيض بنسبة 20 %، كما أظهرت الإحصائيات أن من بين كل 10 سود يعيشون فى الولاياتالمتحدة تجاوزوا سن الثلاثين، يوجد واحد منهم فى السجن! وتوضح الدراسات أنه من المحتمل أن كل شخص أسود ولد فى عام 2001 سيتعرض إلى دخول السجن بتهمة ما، وذلك بنسبة 32% ، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 17% بالنسبة للإسبان، أما بالنسبة للبيض، فإن احتمال دخول السجن ينخفض إلى 6% فقط،.كما تغلظ العقوبات القضائية التى تصدرها المحاكم الأمريكية ضد السود بنسبة 20%، مقارنة بنفس الأحكام التى تصدر ضد البيض على نفس التهم. وفى مدينة فيرجسون - التى لقى فيها الشاب براون الأعزل مصرعه بست طلقات منها اثنتان فى الرأس، نجد أن نسبة السكان السود تبلغ 67%، وفى المقابل نجد أن 94% من رجال الشرطة فيها هم من البيض . ومما لا شك فيه أن الخوف أصبح يهدد الإدارة الأمريكية ويؤرقها بخلاف الحوادث المماثلة التى وقعت خلال السنين الماضية، وكان أكبر دليل على ذلك التعامل الأمنى السريع وإرسال الآلاف من قوات الحرس الوطنى إلى ولاية ميزورى قبل صدور قرار هيئة المحلفين بأيام للسيطرة على الموقف، وهو ما يعكس هلع الإدارة الأمريكية من اشتعال الموقف فى البلاد، لأنها تدرك أن اشتعال العنف العرقى فى ولاية واحدة قد يمتد كالنار فى الهشيم، فالصراع فى مدينة فيرجسون لم يكن مجرد صراع لحظي، بل صراع عميق وإرث متأصل فى المجتمع الأمريكي. والأيام المقبلة وحدها ستحدد مصير الولاياتالمتحدة، فقد تمر هذه الأحداث كما مرت غيرها من الحوادث التى وقعت فى تسعينيات القرن الماضى مع حصيلة من عشرات القتلى والجرحى، أو تكبر كرة الثلج تدريجيا إلى أن تصبح قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار فى أى وقت، بما قد يؤدى مستقبلا إلى نهاية وشيكة للكيان الأمريكي، وهى نبوءة ليست صعبة التحقق.