شهد الوضع الاقتصادي للبلاد في الأشهر الأخيرة تدهورا شديدا كان من أهم علاماته انخفاض معدل النمو إلي ما يقرب من الصفر, وتراجع إحتياطيات العملة الأجنبية بحوالي عشرين مليار دولار وهو ما يزيد علي النصف منذ يناير 2011 حتي يناير, 2012 وتزايد عجز الموازنة العامة للعام المالي 2011/2012 بمقدار 4 مليارات جنيه عن العجز المقدر للعام المالي المنصرم وبمقدار 36 مليار جنيه عن العجز الفعلي لعام 2009/2010 وغير ذلك من الظواهر التي ليس فقط لم تلق ما تستحقه من اهتمام القوي السياسية المنغمسة في صراعاتها السياسية بل إنها أيضا عوملت باعتبارها أمراضا اقتصادية نشأت مع الثورة وأن التغلب عليها سيتحقق تلقائيا مع استقرار الأوضاع السياسية والأمنية, وهو توقع فيه من التمني ما هو أكثر من الحقائق العلمية ويخلط بين النتائج والأسباب. فأول مظاهر التدهور الاقتصادي هو تراجع معدل النمو من المعدل السابق البالغ 1.5% سنويا إلي أقل من 1% فقط, وكان المعدل السابق غير مرض وعرضة لمآخذ كثيرة ليس فقط لأنه غير كاف لمواكبة الزيادة السكانية ولرفع مستوي المعيشة بالمعدل المطلوب بل أيضا لأنه تحقق علي حساب أضرار أحدثها في بنية الاقتصاد. كما أن النمو المحقق لم تنعكس آثاره علي توزيع الدخل, حيث تظهر إحصاءات البنك الدولي أن شريحة الدخل الدنيا ونسبتها 10% من السكان حصلت علي 3.9% من الدخل المحلي الإجمالي عام 2005 في حين كانت النسبة 3.7% عام 1991 وأيضا فإن دخل الشريحة العليا ونسبتها 10% من السكان مثل 27.6% من الدخل المحلي الإجمالي عام 2005 في حين كانت النسبة 26.3% عام 1991 وتشير أرقام دخل الشرائح الأخري إلي نفس الثبات النسبي وهوما يعني أن النمو المحقق خلال خمسة عشر عاما لم يغير إلا القليل في توزيع الدخل بين الشرائح المختلفة. وثاني مظاهر التدهور الاقتصادي هو تراجع إحتياطيات العملة الأجنبية نتيجة انخفاض موارد تلك العملات من السياحة والتحويلات وخروج الكثير من استثمارات المحافظ الأجنبية بسوق رأس المال وهو الأمر الذي يشير إلي عجز الاقتصاد عن إيجاد مصادر للدخل بالعملات الأجنبية تكون أقل تأثرا بالمتغيرات السياسية والصدمات الخارجية ولا تكون خارجة عن نطاق السيطرة كما هو الحال حاليا, فهناك عجز ضخم في الميزان التجاري تراوح في السنوات المالية الثلاث السابقة علي الثورة بين 23 مليار دولار و25 مليار دولار في السنة تمت تغطيته بالفائض المحقق في الميزانين الخدمي والمعاملات الرأسمالية اللذين تتكون مواردهما من بنود غير مستقرة كإيرادات السياحة والاستثمار خاصة استثمار المحافظ الذي يمثل في حقيقته مضاربة علي الأسهم المقيدة بالبورصة المصرية. وثالث مظاهر التدهور الاقتصادي هو ذلك العجز المزمن بالميزانية العامة للدولة الذي بلغ في العام المالي الحالي حدا غير مسبوق, حيث يصل العجز النقدي لنحو 134 مليار جنيه يمثل 27% من إجمالي قيمة الموازنة ونحو 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسب مرتفعة جدا بالمعايير العالمية ويعود ذلك إلي استحواذ ثلاثة مكونات أساسية للاستخدامات هي الدعم والأجور وفوائد الديون البالغ مجموعها 381 مليار جنيه علي ثلاثة أرباع إجمالي المصروفات وتزيد قيمتها علي إجمالي الإيرادات أي أن إيرادات الدولة غير كافية ليس فقط لتمويل أي استثمارات جديدة بل حتي لمواجهة أوجه الإنفاق الجاري, وهناك حقائق صادمة أخري منها أن دعم المواد البترولية وحدها يبلغ 95 مليار جنبه تمثل 61% من إجمالي الدعم, وبالرغم من ضخامة المبلغ المخصص للأجور البالغ 117 مليار جنيه إلا أن المستوي العام للأجور للغالبية العظمي من موظفي الدولة مازال دون المستوي اللائق وليس أدل علي ذلك من أن أجور ما يقارب مليوني موظف بلغت 700 جنيه شهريا بعد إقرار الحد الأدني للأجور وهو رقم هزيل بالمقارنة بمستويات الأسعار, هذا بالإضافة إلي ضخامة مبلغ الفوائد البالغ 106 مليار جنيه تستنفذ حوالي 30% من إجمالي الإيرادات. فإذا كان يمكننا أن نعزو التراجع المؤقت في مؤشرات الاقتصاد الكلي إلي الثورة وما تلاها من عدم الاستقرار الأمني والسياسي فسيكون من التعسف إرجاع أمراض الاقتصاد إلي الثورة, فعوامل الخلل الهيكلي كامنة بالاقتصاد منذ عشرات السنين وجاءت الثورة وما تلاها من أحداث كاشفة وليست منشئة له, وهو ما يتعين علي القوي السياسية المختلفة أن تقدم بشأنه أفكارها وحلولها المقترحة بحيث تكون تلك الأفكار والحلول رافدا أساسيا في عملها البرلماني وخطة عمل مبكرة للرئيس القادم حيث سيتعين علي من يمسك بزمام السلطة عقب الانتخابات المقبلة العمل علي معالجة تلك الإختلالات الهيكلية بالاقتصاد, فهي من أهم ما سيقابله من تحديات وستمثل إختبارا حقيقيا لمدي قدرته علي قيادة البلاد.