بعد مقتل 3 جنود في كمين، حصيلة جديدة لقتلى الجنود الإسرائيلي في غزة منذ مارس    شعبة الأدوية تطالب بزيادة أسعار 1000 صنف دوائي وتوضح الأسباب    اليوم، إعادة فتح الطريق الدائري الإقليمي بعد إصلاحه ووضع مخطط لضبط الحركة المرورية    اليوم، آخر موعد لدفع فاتورة التليفون الأرضي بدون غرامة    احذر.. انتحال صفة شخص من ذوي الإعاقة يُعرضك للحبس والغرامة.. وفقًا للقانون    لماذا تراجعت أسعار الذهب خلال الفترة الأخيرة؟ (رئيس الشعبة يوضح)    مياه أسيوط: الانتهاء من إصلاح تسريب خط المياه الرئيسي وضخ المياه تدريجيًا    القانون يحدد شروط وإجراءات التنقيب في المناجم.. إليك التفاصيل    براتب 11000 جنيه.. العمل تُعلن 1787 وظيفة بمحطة الضبعة النووية    الوسطاء يكثفون جهود وقف إطلاق النار فى غزة وإنجاز «خرائط الانسحاب»    جيش الاحتلال الإسرائيلي ينسف مبانٍ سكنية وسط مدينة خان يونس    ممثل أمريكا لدى الناتو: ترامب يرى فرصة اقتصادية في تصنيع أسلحة لكييف بتمويل أوروبي    إعلام إسرائيلي: انتحار 15 جنديًا منذ بداية عام 2025    بعد انتقاله لميلان.. مودريتش: ريال مدريد سيبقى في قلبي    صفقة جديدة لزعيم الفلاحين.. المحلة يتعاقد مع لاعب كاميروني    بسبب خلافات حول بنود التعاقد.. الحزم السعودي يتراجع عن ضم أحمد عبدالقادر    محمد حمدي: هذه أسباب عدم نجاحي مع الزمالك    الحكم محمد الحنفي يعلن اعتزاله    بيراميدز يستفسر عن ثنائي الزمالك.. ويرفض التفريط في نجمه للأبيض (تفاصيل)    الزمالك يحسم التعاقد مع نجم زد.. كريم حسن شحاتة يكشف    القانون يحدد ضوابط لنقل وزراعة الأعضاء البشرية.. تعرف عليها    موجة حارة وأمطار رعدية.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس غدًا الأربعاء    محامي المُعتدى عليه بواقعة شهاب سائق التوك توك: الطفل اعترف بالواقعة وهدفنا الردع وتقويم سلوكه    بدء إصلاح سنترال رمسيس جزئيًا.. وشكاوى من استمرار انقطاع الخدمة    نتيجة الثانوية الأزهرية 2025.. اَخر تطورات عملية التصحيح ورابط الاستعلام الرسمي    وفاة مسنة سقطت من علو داخل منزلها في سمالوط بالمنيا    حبس عاطل 15 يومًا لتبوله على سيارة محامية بالمحلة الكبرى    أحمد وفيق: عملت في الإضاءة والديكور وتمصير النصوص المسرحية قبل احترافي الإخراج    خاص | أسرة حفيدة أم كلثوم ترد على مدحت العدل بعد انتقاده حجابها    أكلت بغيظ وبكيت.. خالد سليم: تعرضت للتنمر من أصدقائي بعد زيادة وزني    حكاية صورة | خريطة نادرة تكشف ملامح «القاهرة» كما رآها الأوروبيون قبل 400 عام    أصل الحكاية| «جحوتي» القرد الحكيم الذي أنقذ البشرية وألهم ديزني في The Lion King    أستاذ فقه بالأزهر: أعظم صدقة عند الله هو ما تنفقه على أهلك    القانون يحدد شروط وضوابط ممارسة مهنة الطب البيطري.. تعرّف عليها    «مستقبل وطن» يُسلم وحدة غسيل كلوي لمستشفى أبو الريش بحضور قيادات جامعة القاهرة    د.حماد عبدالله يكتب: جودة الحياة في مصر!!    وسام أبو علي يرفض قرار الأهلي بإغلاق ملف رحيله    سعر الموز والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025    مستوطنون يحرقون مخزن سيارات «شرق رام الله» بالضفة الغربية    الأوقاف تُطلق الأسبوع الثقافى ب27 مسجدًا على مستوى الجمهورية    في منتصف صراع كالعادة.. حظ برج الدلو اليوم 15 يوليو    4 أبراج «بيبصوا لنُص الكوباية المليان».. متفائلون دائمًا يحولّون الأزمات لمواقف مضحكة    الانتخابات المنسية    أمين الفتوى: صلاة المرأة في الأماكن العامة ليست باطلة (فيديو)    المنقلبون على أعقابهم!    سعر السبيط والجمبرى والأسماك بالأسواق اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025    القضاء الإداري يصدر أحكاماً في طعون انتخابات مجلس الشورى (تفاصيل)    لتجنب انخفاض الكفاءة والعفن.. طريقة تنظيف الغسالة في 4 خطوات بسيطة    علاج شعبي ونبات رسمي لولاية أمريكية.. التين الشوكي فاكهة ذات 12 فائدة    بمكونات موجودة في المنزل.. 5 طرق طبيعية للقضاء على ألم الأسنان    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في محافظة قنا    أسعار طبق البيض اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في قنا    أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    اليونيسف تنعى 7 أطفال قُتلوا أثناء انتظارهم للحصول على الماء في غزة    السيطرة على حريق في مخلفات بقطعة أرض ببنها    فاينانشيال تايمز تنصح المستثمرين الأمريكيين بتوخي الحذر من التراخي في تطبيق التعريفات الجمركية    "الوطنية للانتخابات" تطلق "دليلك الانتخابي" عبر الموقع الرسمي وتطبيق الهيئة    كيفية تطهر ووضوء مريض القسطرة؟.. عضو مركز الأزهرتجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل ليدي جوردون من مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 11 - 2014

كانت اقامة ليدي جوردنLuciDuffGordon في مصر وبشكل خاص في صعيدها اطول فترة قضاها اوروبي في هذا الجزء من مصر, وقدمت الملاحظات المتعاطفة والنفاذة التي ضمنتها رسائلها الي عائلتها صورة مصر لم يستطع ان بجاريها فيها احد.
وقد ولدت ليدي جودون عام1821 لوالدين جادين عرفا بحبهما للكتابة والتأليف, كان ابوها محاميا اكاديميا كتب الكثير عن فقه التشريع, وأورث ابنته نزعة فطرية الي الدقة, وكانت أمها تترجم الكتب عن الالمانية وتكتب المقالات عن التعليم. وكان اصدقاء الاسرة من الراديكاليين المتحمسين في تلك الايام: بنتام, وجون ستيوارت ميل, ومالكون, وونستون سميث, وقد نمت ليدي كطفلة وحيدة ومبكرة النضج في مثل هذا المناخ.
وفي بداية الاربعينيات من عمرها اصيبت بالسل, الامر الذي نصحها معه الاطباء بضرورة الابتعاد عن جو انجلترا, فسافرت الي جنوب افريقيا عام1861 ومنها كتبت رسائلها:lettersfromcafe التي نشرت عام1864. غير انه لما كانت ابنتها جانيت متزوجة من رجل اعمال وبنوك يعيش ويعمل بالإسكندرية, فقد نصحوها بالاستفادة من جو مصر وفي نفس الوقت تحتفظ بصلاتها مع اسرتها. وهكذا وصلت الي القاهرة عام1862 كتبت عند وصولها عن الجو الذهبي حيث كل شيء تغمره اشعة الشمس والشعر, ولكنها ما لبثت ان اكتشفت ان مناخ القاهرة في شهور الشتاء لا يلائمها ولذلك اختارت ان تتوجه الي الصعيد لتعيش هناك, وقدمت لها الاقصر بوجه خاص بديلا سحرها تراجعت امامه القاهرة. وهكذا كانت ايامها الذهبية في القاهرة محدودة حيث استأجرت ذهبية اتجهت بها الي الاقصر التي ظلت تعيش وتكتب فيها رسائلها حتي وفاتها في بولاق في14 من يونيو1869 وان كانت تود ان تموت بين ناسها في الصعيد.
واذا كان اكتشاف مصر الحديثة الذي ملأ ارفف مكتبة كاملة قد بدأ مع غزو نابليون لمصر عام1798 وفتح كتاب وصف مصر اعين اوروبا علي العالم غير العادي لمصر القديمة, كما جاءت كتابات ادوارد لين عادات وتقاليد المصريين القدماء الذي نشر عام1836, وكتاب المصريون القدماء, قد قامت وصفا لمصر العصور الوسطي, فان مصر التي عاشت تحت وطأة محاولات التحديث المتسرعة لمحمد علي وخلفائه, فقد جاءت رسائل ليدي جوردون كلمات تقدم وصفا وتعليقا لا يقدر حول آثار ذلك وبشكل خاص من خلال حكم اسماعيل.
التعاطف مع المقهورين
وقد توافق وصول ليدي جودون الي مصر مع لحظة مصيرية حيث تولي اسماعيل باشا الحكم لكي يواصل جهود محمد علي المندفعة لبناء الدولة ويصل الي مستويات من استغلال شعبها بكل فئاته ويقوض النخبة الدينية والريفية. كذلك توافقت سنوات اقامتها في مصر مع العمل في شق قناة السويس التي افتتحت في العام الذي توفيت فيه1869 لذلك حفلت رسائلها بمظاهر ما تعرض له الشعب المصري من قسوة الحكام ومن ظلم النظام وعدم كفاءته واساليب التجنيد الاجباري وتفريغ الريف من سكانه. كتبت لزوجها عام1863 ان كل فرد يلعن الفرنسيين هنا.. ان40.000 يعملون في قناة السويس عند حد المجاعة وثمة اهتياج وتخوف كبير حول ما سيفعله الباشا الجديد( اسماعيل).. كما كتبت في احدي رسائلها تصف وقع قسوة الضرائب التي فرضها اسماعيل عام1867 بعد انخفاض اسعار القطن نتيجة عودة القطن الامريكي للسوق العالمي.. وحتي الوجهاء دخلوا السجن حيث وجدوا من المستحيل علي الفلاحين دفع كل الالتزامات الكاملة لقواهم. وحول الاقصر تحول ملاك الارض الي مجرد مشاركين في المحصول, وعرضوا عليها جزءا كبيرا من المحصول اذا ما ساعدتهم علي دفع الضرائب, او جعلها تتدخل نيابة عن زميل لهم مسجون, وكتبت لأمها. انه لشيء مثير حين يكشف صديق عن ملابسه لكي يظهر علامات وقروح السلاسل حول عنقه الامر الذي لم تكن تستطيع ان تساعدهم فيه, وبدت التغيرات من خلال اقامتها في مصر, اكثر مما تستطيع تحمله انني اتذكر ما طالعته عيناي من نافذتي عند وصولي من مناظر طبيعية جميلة وحيث كانت تعج بالبشر والحيوانات, ثم انظر الي مظاهر الضياع المفزع امامي الان فأشعر حقا بمدي ثقل قدم الحاكم ووطأته. كما تصور في رسالة اخري قسوة الحياة علي الناس فتقول.. في يوم قد يجد الانسان طعامه, وفي يوم اخر لا شيء علي الاطلاق. والاطفال يرتجفون من سوء الطعام والقذارة وكثرة العمل.
ثم تحكي ما رواه لها شاب من اكثر الناس احتراما حين جلس اليها ينقل اليها ما سمعه بالأمس ممن جاءوا عبر النهر من قصص مرعبة عن الجثث المتمددة دون دفن بأمر الباشا, ويقول لها: بين كل العالم ليس هناك اكثر بؤسا منا نحن العرب.. ان الترك يضربوننا, والاوروبيين يكرهوننا ويقولون: تماما, والله ان من الافضل لنا ان نخفي رؤوسنا في التراب( ان نموت) وندع الاجانب يأخذون ارضنا ويزرعون القطن لأنفسهم, وبالنسبة لي فأنا متعب من هذه الحياة البائسة والخوف علي مصير بناتي الصغار المساكين..
الابتعاد عن الآراء النمطية
وقد كان من الواضح ان تعاطف ليدي جوردون مع ما رأته من معاناة المصريين انما كان يعود الي تكوينها الثقافي والمناخ الذي نشأت فيه, وبين اقطاب الراديكالية الليبرالية في ايامها الأمر الذي وضعها بشكل حاسم في صف المقهورين, وقد استبقت ليدي جوردون في هذا جيلا من نقاد التجربة الاستعمارية مثل: ولفرد بلنت وسيمورتكي اللذين انتقدا دور بريطانيا في مصر لمقتهما للأساليب الاستعمارية: ولتعاطفهما مع الامانة المصرية. ورغم ان ليدي جوردون لم تشهد حدثا دراميا مثل ثورة عرابي عام1882, فأنها اكثر احساسا من غيرها من البريطانيين في مصر بمحركات الثورة. وبالإضافة الي شخصيتها الاجتماعية, فان مصدر قدراتها غير العادية علي الملاحظة المتعاطفة ربما نبعت من الاختلاف بين هدف وجودها في مصر وهدف معاصريها, فلأنها لم يكن لديها اي مصالح او ولاءات امبريالية, وبسبب اقامتها في مصر, لذلك كانت اقل تعرضا لترديد الآراء النمطية. وربما ساعد في هذا ايضا ظروفها الصحية والمالية التي لم تشجعها علي الاختلاط والاشتراك بشكل كامل في حياة المجتمعات الاوروبية والبريطانية في مصر, وعلي العكس من هذا فان قدراتها الطبيعية في اللغات التي جعلتها تتعلم اللغة العربية دفعها لان ترتبط وتعتمد بشكل اكثر علي المجتمع المصري وان تنتظر وتتعامل مع المصريين ليس كموضوعات للتحليل والسيطرة وانما كقوم يستضيفونها ورافقوها حتي ايامها الاخيرة.
بنت البلد
لخصت ليدي جوردون خبرتها في مصر وحياتها بين شعبها بقولها حين اجلس الان مع الانجليز اشعر وكأنهم اجانب بالنسبة لي, وهكذا فاني اشعر الان تماما بأني بنت البلد هنا.. والواقع ان هذه الخبرة كانت نتيجة معايشة يومية للواقع المصري والالتصاق بكل فئاته وبمواضعاته الاجتماعية والثقافية. مثلما عاشت ليدي جوردون بين الحكام والقضاة ورجال البوليس, والمدرسين وقناصل الدول والمشايخ, عاشت بشكل اكثر التصاقا بين الفلاحين واكلت معهم وجلست بينهم وبين الجمال تأكل اللبن الرايب والبلح, وغشيت حفلات الزواج والذكر والمآتم, وشاركت وراقبت المناقشات الدينية, واستمعت بصحبة النساء المصريات واطفالهن وحسن ضيافتهن الامر الذي اكسبها حب كل هذه المستويات الاجتماعية خاصة الفقراء منها, وهو ما جعلها تكتب ان الناس يأتون ويربتون علي كتفي بأيديهم الي الحد ان طرفا من عباءتي قد بهت من كثرة التقبيل, واصبحت, واصبحت ألقب ب الست بتاعتنا.. وفي مناسبات كثيرة رفضت عرضا من البكباشي هو رجل فظ مثل لأرناؤوط يمارس لعبته التركية في نصحي ان آخذ حذري, ويقول للعرب ان الحكماء المسيحيين سوف يسمعون المسلمين.. وعن مدي قربها من بيئتها وأقبال الناس عليها كتبت تقول.. اني اعلم كل فرد في قريتي.. وقد اشاعت نساء ماكرات ان مقدمي بجانب السعد, ولذلك فكثيرا ما يطلب مني ان القي نظرة علي عروسه, وان ازور منزلا يشيد او اتحسس الماشية.. كما كانت تشعر بوجه خاص بالسرور حين يوكل الاباء اليها علاج اطفالهم, وفي بعض الاحيان كان يتجمع عشرون او ثلاثون فردا خارج منزلي, ويأتي لعديد منهم علي جمالهم من الصحراء مما وراء ادفو, وحين اسالهم ماذا جاء بهم اجابوا ان الشاعر قص عليهم انني زهرة فوق رءوس العرب وان المرضي منهم يجب ان يذهبوا ليشموا رائحة هذه الزهرة وتروي ليدي جوردون فيما يتعلق بأمور العلاج ما يكشف شك الناس من الحكومة حتي في امور الصحة فقد ذكر عنها علي افندي الحكيم كيف حاول ان يعالج هو مرضاها وان يراهم ولكنهم رفضوا.. وحين غادر جاءوني بأمراضهم وحين نبأتهم علي ذلك قالوا: والله يا ست يا حكيمة.. هذا الحكيمباشي سوف ينقلنا الي المستشفي في قنا ثم يضعون لنا السم.. وحين نفيت لهم ذلك وان علي افندي رجل طيب وهو يقدم لهم النصيحة.. ولكن بلا جدوي, فهو طبيب الحكومة وهم يفضلون الموت علي ذلك, ولكنهم سوف يتقبلون اي شيء من الست نور علي نور كما كانوا يسمونني.
وواضح ان التصاق ليدي جوردون بالمجتمع بكل فئاته ومراقبتها اليومية للعلاقات والسلوك والدوافع كان وراء ملاحظاتها التي سجلتها عن كافة تفاصيل الحياة اليومية وعن عادات المصريين واخلاقهم. ويبدو ان المرأة المصرية والعربية البدوية قد نالت اهتمامها ونجدها تعقد مقارنة بين المرأة المصرية والبدوية ان تشاهد البدوي وامراته يسيرون في شوارع القاهرة لهو امر رائع حقا.. فيدها تستريح علي كتفه ونادرا ما تتنازل لكي تغطي وجهها المترفع وتنظر الي المرأة المصرية المتحجبة التي تحمل اعباء ثقيلة وتسير خلف سيدها. كما تتذكر.. المرأة النوبية الشابة التي تريد ان تقدم لي افضل هدية يمكن ان تفكر فيها, حصيرة صنعتها بيديها وكانت سرير زواجها اما بالنسبة لي فقد كانت هذه الهدية تجمع بن الصداقة والشرف, وقد قدرتها علي هذا النحو.
كي تسجل ليدي جوردون الروح الاجتماعية للمصريين ومقابلتهم الود بالود والمحبة.. اذا ما تغاضيت عن المتطفلين الذين يبحثون عن البقشيش, فسوف تجد الكثيرين, وربما كانوا حفاة الاقدام, مستعدين ان يشعروك باهتمامهم خاصة اذا رددت عليهم بتحية او نظرة رقيقة, واذا ما شاركتهم عيش الذرة والبلح, واللبن الرايب وتناولته معهم بشهية كما تورد ملاحظتها علي سلوك المصريين في تجمعاتهم وجلستهم.. من الأمور الغربية ان تجد الضجة في الشارع, ولكن ضع نفس هؤلاء في مقهي في اي مكان فستجد ان واحدا منهم فقط هو الذي يتحدث اما الاخرون فينصتون اليه ولا يقاطعونه ابدا, ان عشرين رجلا لا يصنعون الضجة التي يصنعها ثلاث اوروبيين. كما تبدي تقديرها لقوة وتحمل الانسان المصري وتسخر من دعاوي كسله.
وتروي ليدي جوردون واقعة زواج احد معارفها من المصريين من زوج شقيقه الذي توفي, ووجد ان من واجبه ان يحميها واطفالها وان لا يتركها تتزوج من اجنبي, وتستخلص من ذلك احد دوافع ومعاني ظاهرة تعدد الزوجات وتفهم منها.. انها ليست دائما سببا الي الانغماس في اللذة الحسية, فقد يتحمل تضحيات كثيرة تعاطفا مع زوجة شقيقة المتوفي.. ان هذا هو المسلم الحقيقي.
ويدفعها افتتانها بجمال البيئة ان تدعو زوجها. ان كان لديك اي نفوذ علي فنانين فابعث بهم لكي يرسموا هنا, لا تستطيع كلمات ان تصف الجمال التصويري للقاهرة, او الاشكال الرائعة للناس في مصر العليا وقبل كل شيء في النوبة غير انها في نفس الوقت تأسف علي ما حدث للقاهرة ان ايام القاهرة الجميلة معدودة.. ان المساجد تتساقط وتتآكل والنوافذ الانيقة تستبدل بالزجاج الاوروبي والحصائر...
التسامح بين الأديان
وكثيرا ما لاحظت ليدي جوردون في رسائلها الدرجة العالية من التسامح والتعايش بين الاديان, وفاخرت بحوارها واحاديثها مع المسئولين, ولم يزعجها ما قد يبدو من قلق ديني, ولم تهتم بالمفاهيم التي اشاعها المستشرقون حول الاسلام واعتبروها شيئا مختلفا تماما عن المسيحية, وكانت تري ان الاسلام يمر بعملية احياء شبيهة بتجربة البروتستنتية في اوروبا.. اعتقد تغيرا عظيما يجري بين العلماء لا يصبح معه الاسلام مجرد راية لجانب ما.. ان كل الجانب المعنوي اصبح موضع نظر وتدقيق.
وقد اتخذت ليدي جوردون من صديقها الشيخ يوسف اكثر مرشد لها في هذه الامور, فقد اتخذته اولا لكي يعلمها اللغة العربية ثم ادركت انه ليس فقط مجرد مدرس للغة العربية ولكنه شيخ الاسلام للأقصر كلها. وكان يمثل كلا من السلطة الدينية والقانونية في المدينة, لذلك فقد علمها طرق الاسلام بل واقترح عليها ان يضعا معا كتابا يعلم الانجليز ان الاسلام ليس دينا متعصبا.
وقد شجعها ما لمسته من تسامح علي ان تعود في الوقت الذي يكره فيه الاوروبي ان يدعي بالنصراني, فإنني اقول هنا بشجاعة انا نصرانية والحمد لله وأجد في هذا موافقة شديدة من المسلمين وكذلك من الاقباط وثمة اشياء غريبة تراها هنا فيما يتعلق بالدين: مسلمون يصلون قرب قبر مار جرجس.. كما لاحظت ان الترجمان يلقب احد الانجليز الذين زاروا مصر بالشيخ وحين سألت الترجمان عمن هو الشيخ ستانلي اجابها انه القسيس الذي رافق ابن الملكة في خلال زيارته لمصر واضاف في الواقع انه شيخ حقيق وواحد ممن يعلمون الامور الحقيقية للدين, لقد كان رحيما حتي مع الجياد وانه لمن رحمة الله علي الانجليز ان يكون هذا اماما للملكة والامير.. وحين سألته وكيف تتحدث بهذا الشكل وانت درويش بين المسلمين عن قسيس نصراني, اجاب ان من يحب كل مخلوقات الله فلابد ان الله يحبه كذلك, ليس هناك شك في هذا. وتعقب ليدي جوردون ليس هناك امل في تفاهم مجيد مع الشرقيين حتي يقتنع المسيحيون الغربيون ويدركون العقيدة المشتركة التي تتضمنها الديانتان؟.
وتروي ليدي جوردون عددا من الوقائع التي اكدت لها روح التسامح بين المسلمين تجاه المسيحيين, ففي احد مجالسها جاءت سيرة الاجانب الغرباء الذين يموتون ويدفنون في مصر وما يتكلفه هذا, عقبت ليدي جوردون معلهش, ان الذين كانوا كراما في ضيافتي وانا حية ان يكفوا عن هذا حين اموت, ولكن اعطني قبرا بين العرب, ورد رجل عجوز: اتمني ان لا نري هذا اليوم يا سيدتي,.. ولكنه في اي مكان ستفنين فيه فانك بالتأكيد سترقدين في قبر مسلم, حين تساءلت: كيف يكون هذا اجاب لأنه حين يموت مسلم سيء فان الملائكة يأخذونه من قبره ويضعون بدلا منه المسيحيين الطيبين. وتحكي عن مشهد دفن احد الانجليز الشبان وحيث تعاون الاقباط والمسلمون في حمل الغريب.. وفي مشهد غاية في التأثير وفي ساعة وضعه في القبر والصلوات الانجليزية تتلي, والشمس تهبط في فيض مجيد من الضوء علي الطرف البعيد من النيل قالت امرأة من العبابده لي والدموع في عينيها وهي تضغط علي يدي تعاطف مع هذه الام البعيدة ومن جنس مختلف: هل كان له ام.. لقد كان شابا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.